الرأي
في صحبة موسى والخضر

الخضْر بريءٌ من هذه الشطحات

أبو جرة سلطاني
  • 1455
  • 3

بعد طول تأمّل انتهى الغزالي في “المنقذ من الضّلال” إلى القول: “إنّ العالم الحقيقي لا يصادف معصيّة إلاّ على سبيل الهفوة، ولا يكون مصرًّا على المعاصي أصلا.. فالعلم الحقيقي يزيد صاحبَه خشية وخوفا ورجاء، وذلك يحول بينه وبين المعاصي، إلاّ الهفوات التي لا ينفكّ عنها البشر في الفترات (أيْ في لحظات الضّعف البشري) وذلك لا يدلّ على ضعف الإيمان، فالمؤمن مفْتن توّاب، وهو بعيد عن الإصرار والإكباب” (مجموعة الرّسائل/ المنقذ: 608). هذا هو منهج الإيمان والدّعوة وسبيل البلاغ عن الله ورسوله. لأنه لم يثبت عند علماء الأمّة المعدودين أعلامًا وقدوة ومراجعَ، ولم يصحّ عنهم شيء ممّا فوق الرّسالة والنّبوّة، وخارج ما جاء به المصطفى –صلّى الله عليه وسلّم- إخبارًا عن الغيب، فكلّ ما وراء هذا تنطّع مرذول وتزيّد مردود على أصحابه الذين رفعوا بعض “مشايخهم” فوق الرّسالة والنّبوّة إلى مقام الملائكة والعصمة. وقالوا بعلم الحقيقة ليضاهوا به علم الشّريعة، وكأنّهما ضدّان، أو كأنّ الشّريعة ليست حقيقة، فإذا سألتهم دليلا من الكتاب والسنّة قالوا: أتطلبون على الذّوق دليلا وتسألون لمقام الاختيار عرضا وقد هربنا من الشّواغل وفررنا من الأعراض، فنحن في مقام الفناء في الذّات التي تغنينا عن تلّمس علوم الصّفات، فصار الذّوق لنا مشاهدة يغني فيها العلم بالحال عن السّؤال!!

هذا كلام مردود عليه بنصّ القرآن الكريم في قوله تعالى على لسان رسوله –عليه الصّلاة والسّلام-: ((قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)) (الأعراف: 188)، ومثلها في سورة (يونس: 49).. هل يعلم هؤلاء ما لم يُعلم الله به رسوله؟ أم أنّ طريق السّالكين أشدّ وضوحًا من طريق المهتدين؟ وهل ترك رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- ثغرة في البلاغ قاموا هم بسدّها وهو الذي زكّاه ربّه بكمال الدّين وتمام النّعمة؟ فلا أحد يحدّثه قلبه عن ربّه بزعم أنّ له سرّا عند ربّه في خلواته.

إذا لم تتدارك رحمة الله النّاس بهداية ورشاد صار علمهم سبيلا إلى الضّلالة والغواية والفساد، وصاروا بواسع علمهم وغزارة معارفهم وكثرة أعمالهم من الأخسرين أعمالا: ((الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)) (الكهف: 104)؛ فالمؤمن الذي يسأل ربّه أنّ يزيده علما يحتاج أن يُسيِّج هذا العلم بسؤال ربّه الرّحمة في ما علم والتّوفيق في ما فهم، فالعلم شهادة لك أو عليك.

وكلما زاد نصيب المؤمن من العلم زادت أعباؤه من التّكليف إلاّ أن يوفّقه الله للعمل بما علمه رحمةً منه تعينه على الهداية والرّشاد، فذاق حلاوة ثمرة العمل الصّالح بدعاء النّاس له وما عند الله خير وأبقى. فرحمة الله بك ألطف من رحمتك بنفس، فهي كما يصوّرها ابن قيّم الجوزيّة: “فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل هو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه، والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرّها ويؤلمها.. فلا علم له بمصالحها ولا رحمة عنده لها.. ولكنّ الربّ تعالى أعلم بالمحلّ الذي يصلح للهدى والرّحمة، فهو الذي يؤتيها العبد، كما قال عن عبده الخضر: ((فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)) (الكهف: 65)؛ فالرّحمة صفة تقتضي إيصَال المنافع والمصالح إلى العبد، وإنْ كرهتها نفسه وشقّتْ عليها” (إغاثة اللّهفان: 475).

مقالات ذات صلة