الرأي

الشيخ علي مرحوم

ح.م

مدرسة الإمام عبد الحميد ابن باديس – عليه من الله عزوجل الرحمة والرضا- هي مدرسة تربوية في الدرجة الأولى قبل أن تكون مدرسة تعليمية فقط، تملأ عقول التلاميذ والطلبة بمعلومات جافة خالية من “الروح”، بعيدة عن “التربية”، مشوّهة الوطنية.. فكانت تركز – بدءا وختاما- على الخلق الكريم، لأنها تستيقن أن العلم من غير أخلاق هو كالشجرة من غير أثمار، بل إن ضرر هذا العلم غير المحصن بالخلق السليم سيكون أكبر على صاحبه وعلى أسرته ووطنه.. ولهذا كان شعار هذه المدرسة الباديسية هو:

لا تحسبن العلم ينفع وحده            ما لم يتوّج ربّه بخلاق

ثم منّ الله على الجزائر بتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهداها إلى الاقتداء بمنهج الإمام ابن باديس في التربية والتعليم، فكان من “عهودها مع الله أن تنشئ مجتمعا إسلاميا.. وأن تسلك لذلك طريق التربية قبل طريق التعليم، لأنها تعلم أن العلم المجرّد من التربية الصالحة لا ينفع، وقد يكون بلاء على صاحبه، ووبالا على الناس، كما هو مشهود في آثار العلوم الغربية في أصحابها وفي مقلديهم منا”. (آثار الإمام الإبراهيمي ج4/ص 329).

وقد أنتجت هذه المدرسة الباديسية ومدارس جمعية العلماء نماذج من أفضل البشر تديّنا صحيحا، وسلوكا قيّما، ووطنية لاشية فيها، ولا خيانة، ولا ركونا للعدو الفرنسي.

من النماذج التي خرجتهم المدرسة الباديسية ثم أصبحوا من دعائمها، والعاملين فيها والناشرين لمبادئها في أثناء “الاستخراب” الفرنسي وبعده الشيخ علي مرحوم، الذي نسأل الله – عز وجل- وندعوه إلى أن يجعله كاسمه “عليا” و”مرحوما”.

ولد علي مرحوم في الرابع عشر من شهر مارس من عام 1913 في “بني مسلم” القريبة من مدينة الميلية .. من ولاية جيجل.

تعلم ما كان يتعلمه أبناء الجزائر من مبادئ الدين واللغة العربية، حتى إذا آنس منه أهله رشدا ونضجا، ولمسوا تطلّعه للاستزادة من العلم وجهوه إلى أقرب مكان لمضاربهم وهي مدينة قسنطينة، التي أحدث فيها الإمام ابن باديس “ثورة” في الدين، وفي الاجتماع، بدروسه الحية، وصحافته (المنتقد ثم الشهاب) المتميزة في المعاني والمباني.

التحق الشاب علي بقسنطينة في عام 1932، وكانت جمعية العلماء قد أسست في العام 1931، فانسلك في حلقة دروس الإمام ابن باديس، فكان نعم الطالب لنعم الأستاذ، وقد لاحظ الإمام المربي ما يتمتع به تلميذه من خلال الفطنة والذكاء والحرص على التعلم، وعلى الاستقامة في السلوك، فقربه إليه وبدأ يعده لما هو متوقع من مثله، فكان علي مرحوم نموذجا للمدرسة الباديسية في العلم الصحيح والعمل الصالح.

وفي سنة 1937 كلفه الإمام بالتدريس في “مدرسة التربية والتعليم” بقسنطينة، كما كلفه في سنة 1939 ليتجول في بعض مناطق الجزائر باسم مجلة الشهاب، لنشر دعوة الإصلاح ونشر الوعي الوطني.. ولم تكن هذه المهمة سهلة، وما كانت الطريق ذلولا.. وما كان لمن نفخ فيه ابن بدايس من روحه لينكسر أمام الغريب المحتل أو أمام القريب المعتل.. وقد تمكن الشاب علي مرحوم فيما قام به من جولات للشهاب وللبصائر من أن يعرف أنحاء من وطنه، ويتعرف على الصالح من أبناء وطنه، والطالح منهم.

وفي عام 1940 انتقل علي مرحوم إلى مركز هام من مراكز الحركة الإصلاحية والوطنية، وهو مدينة بسكرة، فأشرف على مدرستها بما عرف عنه من جديته في العمل، وإخلاص فيه.

وقد نشط علي مرحوم في هذه المرحلة في”الكشافة الإسلامية” التي أسسها المناضل الشهيد محمد بوراس.. وكان ممن تتلمذ على الأستاذ علي مرحوم في المدرسة ونشط تحت قيادته في الكشافة المجاهد الشهيد الرمز محمّد العربي ابن مهيدي.. الذي نشأ في حضن وعلى عيني الأستاذ علي مرحوم، لأن هذا الأخير كان بعلا لشقيقة العربي ابن مهيدي..

ثم تنقل الأستاذ علي مرحوم بين عدة مدارس لجمعية العلماء لإدارتها والإشراف على حركة الجمعية في تلك المدن كبرج بوعريريج وسطيف، وقسنطينة.

وعندما اتسعت حركة جمعية العلماء، وكثر عدد المدارس والمدرسين رأى الإمام محمد البشير الإبراهيمي – رئيس الجمعية- أن ينشئ في عام 1947 هيأة للإشراف على التعليم والمعلمين سماها “لجنة التعليم العليا”، التي سماها الشيخ عبد الرحمن شيبان “وزارة تعليم شعبية”. وكان ممن اختيروا لعضوية هذه اللجنة الأستاذ علي مرحوم.. وفي إطار هذه اللجنة عين الأستاذ علي مرحوم مفتشا لمدارس الجمعية في كل من سطيف وبرج بوعريريج وبسكرة وما حولها.

في سنة 1954 اندلعت الثورة المباركة، وأدركت فرنسا أن أيامها في الجزائر أصبحت معدودة، وأنها ستخرج من الجزائر، فراحت تبطش بأصحاب الوعي والفكر، فاستشهد من كتب الله له الشهادة، وسجن من سجن، ونجّى الله من نجّاه ليواصل الجهاد داخليا وخارجيا.

طلبت جبهة التحرير الوطني من الأستاذ علي مرحوم لينتقل إلى المغرب الأقصى الشقيق، فالتحق بصفوف جبهة التحرير هناك، وكان اسمه الثوري “مراد”، وعمل في إذاعة الثورة الجزائرية في المغرب، وكان على تواصل كبير مع علماء المغرب، خاصة الذين كانوا على تواصل مع جمعية العلماء قبل الثورة.

بعدما جاء نصر الله، وأخرج الله الذين كفروا من الجزائر، وعاد الذين أخرجوا من ديارهم رجع الأستاذ علي مرحوم إلى التعليم، ثم عين مفتشا للتعليم الابتدائي والمتوسط إلى أن أحيل على التقاعد في 1974.

كان الشيخ علي كإخوانه من أعضاء جمعية العلماء يؤدي عمله في ميدان التربية والتعليم وينشط في إطار المجلس الإسلامي الأعلى في نشر الوعي الديني الصحيح، وقد انتخب رئيسا لجمعية الحياة الإسلامية التي أشرفت على بناء مسجد الإمام ابن باديس في حي القبة بمدينة الجزائر.

وعندما عين الشيخ عبد الرحمن شيبان وزيرا للشؤون الدينية كلفه بالتفتيش في الناحية الشرقية للوطن، كما عينه عضوا في لجنة التراث لإحياء تراث علماء الجزائر، وقد شارك في إخراج الجزأين الأول والثاني من آثار الإمام عبد الحميد ابن باديس، وعندما توفاه الله – عز وجل- في 9 جويلية من سنة 1984، قدر الله لي أن أخلفه في هذه اللجنة، احتسابا لوجه الله.

ما تركه الشيخ علي من آثار لا يتناسب مع علمه، إذ لم يترك – فيما أعلم- إلا كتابا واحدا سماه “من مدرسة النبوة”.

وفي الندوة التي أقيمت في المركز الإسلامي لتقديم هذا الكتاب، وكان ذلك متزامنا مع حملة شنها الأراذل على جمعية العلماء و”تخلفها” عن النضال السياسي والجهاد المسلح، تناولت الكلمة وقلت في “حدة” لمن كان حاضرا من أعضاء الجمعية وكان منهم الشيخ علي مرحوم: إننا لسنا في حاجة إلى أن تكتبوا لنا في مثل هذه الموضوعات، فهي مبثوثة في الكتب القديمة والحديثة، ولكننا في حاجة إلى أن تكتبوا عما فعلتموه في الجهادين التعليمي – السياسي والمسلح، لأن “أعداء” جمعية العلماء يبخسونها عملها الجليل بأقلامهم “المأجورة”، وأفكارهم “المنخورة”.. وقد تعجبت عندما تقبل الشيخ علي مرحوم كلامي بصدر رحب، وعقل كبير.

رحم الله الشيخ علي مرحوم الذي لا أجد أحسن من وصف أخيه وصديقه الشيخ أحمد حماني، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، حيث قال عنه: “مثله نادر في الزمن”.

(مقدمة كتاب: من مدرسة النبوة، ص12)، ومن كلمة الأستاذ محمد الصالح الصديق الذي قال عنه الشيخ علي مرحوم: “عاش كل حياته شمعة مضيئة، وينبوعا فياضا”. (أعلام من المغرب العربي. ج3. ص917).

مقالات ذات صلة