الرأي

الصحة.. الوزارة السيادية الأولى 

ح.م

لا أحد على وجه الأرض، ما بعد انقضاء “الحرب العالمية الثالثة”، ولملمة جراحاتها، سيواصل عيشه على نفس البلاهة والغباء، إذ يمنح الجاه والمال والاهتمام، للاعب الكرة وراقص الباليه والمغني… ولا يمنحها لباحثٍ في العلوم الحيوية وطبيبٍ يضحي بحياته لأجل شفاء الإنسانية، فاندلعت الحرب، وبلغت ذروتها، وسقط أكثر من 760 ألف إنسان بين مصاب وقتيل، وعجزت جيوشُ أمريكا الممتدة في كل بقاع العالم، وأساطيلها العائمة وطائراتها الذكية، وساستُها الذين حوّلوا الكرة الأرضية إلى كرة تنس، يقذفونها أينما شاءوا، عن الوقوف في وجه عدوِّهم الجديد، بل عن معرفة هويته ومواقعه وأسلحته، ورفعت فرنسا راية الاستسلام، ولم يجد الرئيس الفرنسي ماكرون، وهو في حالة من القنوط، سوى أن يتوسَّل الطواقم الطبية ويعتذر إليهم، ويعِدهم بعد النصر، باهتمام خاص، يجعلهم صورة فرنسا الجديدة وجنود سيادتها الحقيقية.

في البليدة ووهران وقسنطينة والعاصمة، حيث الفيروس يزحف، تُقلّب الجزائر دفاترها السابقة والحالية، فتكتشف بأنها صرفت كل المال على وزارات أسمتها بـ”السيادية”، ولم تمنح لقطاع الصحة سوى الفتات، ومع مرور الوقت صار حال طفل يبيع السجائر في وسط الطريق، أحسن من حال طبيب مختصّ، أفنى ربع قرن من حياته في التعلم، وما أوتي من العلم إلا قليلا.

في قانون المالية الحالي، ضخّت الدولة للصحة مبلغا صغيرا، مقارنة مع وزارات أخرى، لم يزد عن أربع مئة مليار دينار، ومنحت للتجهيزات أكثر من تسعة وثلاثين مليار دينار، وليت هذه الأموال توجَّهت إلى بناء المستشفيات وتجهيزها وتكوين الأطباء، بل إن غالبيتها صُرفت في شراء تجهيزات ثانوية وطعام ومرتّبات لعمال وعاملات المكاتب، وهو ما جعل محاكم الجزائر تزدحم بمديري صحّة ولائيين ومستشفيات، اتهموا باختلاس المال العام، بعد أن قادهم على مدار عقود، وزراءُ صحة بعضهم يدخن السجائر، وآخرون لا يفرِّقون بين الفيروس والبكتيريا، بل لا يفرِّقون بين الصحة والمرض.

عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وفاق عددُ ضحاياها الستين مليون نسمة، قرّرت الكثير من الأمصار تقوية دفاعاتها، فاندلعت حرب تسلُّح موازية، ووجد الحديد من يشتريه، وضحّت دولٌ كثيرة بلقمة العيش من أجل سلاح يحميها من العدو، وضحّت أخرى بالعلم وبالصحة من أجل التفاخر بترسانة جيوشها، وبالسلاح الذي تقتنيه من مختلف القارَّات، ومع مرور السنوات دخل العالم حروبا غير كلاسيكية، فخسرت بلدانٌ اقتصادياً، وخسرت أخرى ماليا وغذائيا، وما نفعها سلاحُ الحديد، وها هو العالم وبدرجات، يخسر صحيا وعلميا، وتكتشف الإنسانية بأنها صرفت المال والإمكانات المادية في الموضع غير المناسب.

تصرف الجزائر حاليا 230 مليار دينار على وزارة المجاهدين، وعشرات المليارات على وزارتي العلاقات مع البرلمان والتضامن الاجتماعي وحتى على وزارة النفط، ولا تصرف سوى تسعة وثلاثين مليار دينار على التجهيزات الطبية التي منها أجهزة السكانير وغرف الإنعاش ومروحيات الصحة وسيارات الإسعاف المتطورة وأجهزة التنفس الاصطناعي… وتمنح الجزائر للاعب الكرة مئتي مليون سنتيم في كل شهر، مهما كان مستواه، ولا تمنح لطبيبٍ مختصّ أكثر من عشرة ملايين.

صدقوني، إذا لم تغيّر كورونا من حالنا، وتكون الخيرَ الذي ظنناه بالكامل شرا، فعلينا سلاما.. ما بعده عودة!.

مقالات ذات صلة