-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الصراع الأمريكي الروسي على الانتخابات الرئاسية التركية

خير الدين هني
  • 742
  • 0
الصراع الأمريكي الروسي على الانتخابات الرئاسية التركية

احتدم الصراع الاستخباراتي بين الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وبين روسيا الاتحادية على الانتخابات الرئاسية التركية القادمة، وقد جندت كل واحدة منهما تقنياتها العالية في مجالات رصد المعلومات المتعلقة بمخططات الغريم الانتخابية، أو تقنيات إمكانية اختراق الحواسيب للتلاعب بالنتائج عند اللزوم.

تراهن روسيا على فوز الرئيس طيب أوردوغان ذي الميول الوطنية والإسلامية المستقلة عن الغرب، وهي الميول المستلهمة من تاريخ السلطنة العثمانية العدو التاريخي للغرب، والغرب يراهن على غريمه اللدود كمال كليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري ذي النزعة المتطرفة المستمدة من الفلسفة الليبرالية والعلمانية، وهي الفلسفة الموروثة من العقائد الاستشراقية التي تبناها مصطفى كمال أتاتورك، ومن كان على رأيه من أولغارشيا كبار البيروقراطيين المنتفعين من التأييد الغربي والاتجاهات السياسية الجديدة، التي أُريد لها أن تنتحي نحو الوجهة الغربية، ورموزها الثقافية والحضارية والأخلاقية.
لكي تصبح تركيا مقيَّدة بالرمزية الغربية، ضمن محاورها الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، وهي الرمزية التي تجعلها لا تحيا ولا تموت إلا في الاستبسال في خدمة المصالح الغربية، وفق المشيئة المخطط لها في الأدب السياسي والاستخباراتي في الدوائر السرية، ما جعل تركيا متخلّقة بالفكر الغربي طوال حكم كبار البيروقراطيين من الكماليين العلمانيين، وقد تشرَّبوا قيمهم ونزوعهم الوجداني من الثقافة الغربية المحضة، ما جعل تركيا العظيمة بإرثها التاريخي والحضاري والسياسي، دويلة منقادة وعديمة الأثر تابعة للغرب تقتات من فضول سقط موائده، ولا صوت سياسيًّا لها يعلو في المحافل الدولية، إلا بما يوحى به إليها كأمر للتنفيذ من غير أناة ولا شكاة ولا تبرُّم أو تذمُّر.
ولما سئم الشعب التركي حكم البيروقراطيين والوكلاء، انتخب حزبَ العدالة والتنمية في عام 2002، فأثبت رئيسُه أور دوغان قدراته الفائقة في حسن التسيير والتدبير، وبرزت مواهبه العجيبة في الزعامة وقيادة بلاده وشعبه نحو مراتب السؤدد والمجد، وخلّص تركيا من التضخُّم الرهيب الذي حوّل الليرة إلى ما يشبه الورق العادي، ومن المديونية الخارجية التي خنقت البلاد وعطلت التنمية، وحرك الآلة الاقتصادية بوتيرة متسارعة حتى أصبحت تركيا تنتج كل شيء من الصناعات المدنية والعسكرية بمعايير دولية، فانتقلت من الرتبة ما بعد المائة اقتصاديا وتنمويا إلى الرتبة السابعة عشر، ما جعلها تنضمُّ تلقائيا إلى مجموعة العشرين الأكثر غنى في العالم في زمن يسير، وخلّص البلادَ من قيود الهيمنة الغربية وإملاءاتها المهينة، وأصبح لها صوتٌ حرٌّ ومستقل ومسموع، يصدح باسم السيادة التركية من غير خوف ولا وجل ولا حرج.
واستطاعت تركيا بفضل مواهب رئيسها أردوغان، وقدراته وحبه لبلده وإخلاصه لشعبه، أن تنشئ صناعاتٍ عسكرية دفاعية متطورة، ومنافِسة للصناعات العسكرية الأجنبية، وآخرها تدشين حاملة طائرات محلية الصنع بنسبة 80 في المائة، بعد أن حرمتها أمريكا من بيع المسيَّرات وبعض التقنيات البسيطة، كما نشّط رئيسُها السياحة والفلاحة والصناعة بعد أن أحدث ثورة عارمة في البنية التحتية من طرقات وأنفاق وسدود وسكك حديدية ومطارات… وأصبحت المدن التركية في جمالها ونضارتها ونظافتها أفضل من مدن شهيرة في أوروبا، وقد وقفنا على هذا بأنفسنا بالمعاينة.
وهذه النقلة النوعية في التنمية والازدهار والاستقلال في القرارات السياسية، لم ترُق الدولَ الغربية المهيمنة لأنها لا تريد من تركيا المسلمة، أن تكون دولة مزدهرة متطورة مستقلة، لذلك أوعزت لوكلائها من أحزاب المعارضة العلمانية والانتهازيين النفعيين المنقلبين على أعقابهم من حزيبات إسلامية مجهرية، أن تتحالف ضد الرئيس أوردوغان لإسقاطه، ومشروعهم الوحيد الذي قدموه للشعب التركي هو تهديم ما بناه أوردوغان من إنجازات، والعودة إلى المديونية الخارجية (اقتراض 150 مليار دولار من المؤسسات المالية المعروفة).
والهدف هو إغراق البلاد في الديون الخارجية، لكي يرهنوا سيادة البلاد ومستقبلها للغرب، لكي يمكّنهم من الخلود في الحكم بأي طريقة، على نحو ما هو موجودٌ في العالم العربي، وقد استغفلوا سذاجة نحو ستة ملايين من الشباب، ممن لم يعيشوا مآسي حكم العلمانيين ورثة الكمالية قبل حزب العدالة والتنمية، إذ كانت البلاد في عدم استقرار سياسي، والشعب في شبه مجاعة والمدن وسخة والنقل يكاد ينعدم، وقد أغروهم بمتعة الحرية الجنسية والمِثلية، كي يصوِّتوا على مشروعهم السياسي الذي سيحوِّلهم إلى رهائن لدى الغرب المتسلط.
وهذا ما أدركه الشعب التركي، الذي عاش ويلات حكم البيروقراطيين العلمانيين والانتهازيين الإسلاميين واليساريين، فلم يقبل أن يستعيض عن أوردوغان بغيره، وينتخب سواه في مختلف الاستحقاقات السابقة عبر عقدين زمنيين متصلين، إذ ترك المنافسين الثرثارين من العلمانيين واليساريين وشرذمة مأجورة من ذوي الميول الإسلامية، يهيمون على وجوههم وقد فقدوا بوصلة التوجيه، وتميزت قلوبهم من الغيظ واعتصرت نفوسهم من ألم الهزائم والخيبات الانتخابية، ولم يثبتوا جدارتهم في الحكم والتسيير في أبسط المسئوليات التي أُسندت إليهم في البلديات والولايات التي فازوا بها في الانتخابات المحلية.
إن الغرب بسياسته المراوغة التي تتبنى -كذبا- مقولة الدفاع عن الديمقراطية والحرية والمساواة في الحقوق والواجبات، بين الشعوب والأمم والأقليات والإثنيات والأحزاب والجمعيات، لم يثبت صدقيته أمام بروز قوى سياسية وطنية مستقلة، تريد أن تتحرّر من قيود الهيمنة التي يريد فرضها على بلدانهم وشعوبهم، فهو يريد أن يوجه قراراتها السياسية واللغوية والثقافية والحضارية والاقتصادية، نحو الوجهة التي تخدم مشاريعه السياسية والقومية والأيديولوجية.
كما فعلوه مع أفغانستان من قبل، حين فرضوا عليهم العميل حامد كرزاي، لينوب عنهم في إدارة السياسة الداخلية والخارجية الأفغانية، وفعلوه -أيضا- مع العراق بعد الغزو الأمريكي سنة 2003، ففرضوا عليهم كرزاي عراقيا يأتمر بأمرهم وينفذ سياستهم الاستعمارية المعادية للوحدة والثقافة العراقيتين، وفعلوه مع رئيس الحكومة الباكستاني السابق عمران خان الذي دبروا له انقلابا أبيض حين أراد أن يستقل بباكستان عن الهيمنة الأمريكية، واستبدلوه بكرزاي باكستاني آخر معروف بولائه للغرب، وهم اليوم يحيكون له مؤامرات اغتيال متعددة للتخلص منه حتى لا يعود -من جديد- في الاستحقاقات القادمة، ودبروا انقلابا عسكريا على الرئيس أوردوغان سنة 1916، بالتآمر مع الألغارشيا العلمانية من كبار البيروقراطيين العسكريين والمدنيين، لولا إفادة الاستخبارات الروسية الاستخبارات التركية قبل فوات الأوان، ووقوف القوى التركية المخلصة من العسكريين والأمنيين والمدنيين من مناصري الديمقراطية والشرعية، المناهضة للهيمنة الغربية المعادية للاتجاه الوطني وحرية الشعوب.
لم يقبل الغرب أن تخرج تركيا بثقلها التاريخي والبشري والحضاري والجغرافي والاقتصادي والعسكري، عن دوائر تأثيره وتوجيهه وأوامره وإملاءاته، وأوردوغان تمرّد على سياسته المهيمنة، وانحاز إلى تكتل شرقي معادٍ له أيديولوجيا رغم تكتلهم العسكري تحت مظلة الناتو، والتكتل الشرقي بزعامة روسيا والصين، ليس مما يحبذه الغرب لاختلافهم في الأيديولوجيا والتنافس على النفوذ وزعامة العالم.

 استطاعت تركيا بفضل مواهب رئيسها أرودوغان، وقدراته وحبه لبلده وإخلاصه لشعبه، أن تنشئ صناعاتٍ عسكرية دفاعية متطورة، ومنافِسة للصناعات العسكرية الأجنبية، وآخرها تدشين حاملة طائرات محلية الصنع بنسبة 80 في المائة، بعد أن حرمتها أمريكا من بيع المسيَّرات وبعض التقنيات البسيطة، كما نشّط رئيسُها السياحة والفلاحة والصناعة بعد أن أحدث ثورة عارمة في البنية التحتية من طرقات وأنفاق وسدود وسكك حديدية ومطارات…

وحزب كمال كليجدار أوغلو والطاولة السداسية، اختاروا الانحياز إلى التكتل الغربي، كي يجعلوا من تركيا مصدّا للزحف الشرقي، ولذلك اختاروا الانحياز للغرب كلازمة من لوازم منهجهم السياسي والثقافي والأيديولوجي، والعلمانيون اليوم يريدون أن يعيدوا تركيا إلى أحضان الغرب، لكي يتخذها حاضنة لتربية صيصانه على أيديولوجيته مقابل التمكين لهم في الحكم، ولذلك هو يسعى بكل جهد إلى تنصيب زيلينسكي جديد على تركيا، كما نصّب من قبل كرزايات على البلدان المقهورة، ولم يجد أحسن من يؤدي هذه الوظيفة ككمال كليجدار أوغلو، الذي كثّف من زياراته السرية إلى الولايات المتحدة، لكي يتلقى منهم الإيعاز والتوجيه والعمل الاستخباراتي المعدّ ضد أوردوغان، وفي المقابل فإن روسيا جندت آلتها الاستخباراتية، لتنافس أمريكا على فوز أوردوغان وإسقاط المعارضة، لأن روسيا تعلم مدى كره أوردوغان للغرب وسياسته العدوانية، وهي تعلم بأنه رئيسٌ قوي الكاريزما وشديد البأس ولا يهاب العنتريات الغربية، وهي تثق في مواهبه وقدرته على التأثير الداخلي والخارجي، وروسيا معروفة بقدرتها الاستخباراتية على اختراق نظم الانتخابات المصيرية، وقد اتُّهمت بأنها لعبت بالنتيجة لصالح ترامب، رغم سطوة الاستخبارات الأمريكية، فقد اخترقتها وفعلت ما أرادت.
والشعب التركي والدولة العميقة من الخيِّرين، لا يمكنهم أن يتركوا الفرصة لحزب متغرّب مقطوع عن أصوله وجذوره، ولا مشروع سياسيا أو اقتصاديا له إلا رغبته الجامحة في تهديم المنجزات السابقة، ونشر الرذيلة في مجتمع إسلامي أصيل، وواجبهم الوطني والقومي والديني يُلزمهم بالتكتل كرجل واحد لقطع الطريق أمامه بالصناديق، حتى لا يقذف بلدهم العظيم في أحضان الغرب من جديد، لكي يعبث بمصيره ومستقبل شعبه، مثلما فعل من قبل طوال مدة حكم الأتاتوركيين الذي استغرق 69 سنة.
والغرب الذي يُسوِّق للحرية والدمقراطية، يمنع بالقوة المتطرفين من أبناء جنسه ممن لهم نزوع مسيحي أو نازي أو فاشي أو شيوعي من الوصول إلى الحكم، مثلما فعله حين منع الحزب المسيحي من الحكم، بعدما فاز في النمسا خلال سنوات مضت، واقتداء بالغرب فلماذا تقبل القوى المخلصة في تركيا، وصولَ المتطرفين المعادين لأصولهم وتاريخهم ودينهم وحضارتهم بالوصول إلى الحكم، وهم الذين غيّروا معالم الثقافة التركية واتجاهاتها الأيديولوجية والعقدية أيام حكمهم، من غير مراعاة لأمجاد تركيا التي حكمت العالم ما يقارب من ستة قرون كاملة، دحرت فيها القوى الاستعمارية المتكالبة على الشرق الإسلامي؟
الانتخابات القادمة هي من يحدد مصير تركيا ومستقبلها السياسي والتنموي، وهل تبقى دولة مستقلة ذات سيادة، أم تعود إلى الوصاية الغربية ليعبث بها حسب إرادته ومصالحه؟ ولذلك يؤيد زيلينسكي تركيًّا مخلصًا له، كي يعينه على روسيا في الحرب الأوكرانية، ويجعل الشعبَ التركي وسلاحه وقودا للحرب هناك بالوكالة عنه، وهذا ما تدركه روسيا جيدا، لذلك اشتعلت الحرب الاستخباراتية بينهما، بشأن الانتخابات الرئاسية التركية القادمة، كل يريد أن يعمل ما بوسعه لإنجاح حليفه وإسقاط غريمه، والحرب دائما يكسبها الأقوى استخباراتيًّا وتخطيطا وتنفيذا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!