الرأي

العبث بالمدارس العليا للأساتذة

بعد الاستقلال، وللنهوض بالتعليم قلّدت الجزائر النظام المتبع في فرنسا : 13 سنة من الدراسة  للحصول على الباكلوريا. ثم الالتحاق بالجامعة أو المدارس العليا والوطنية. وهكذا أنشئت في عاصمتنا مدارس وكليات بأسماء مطابقة لتلك الموجودة في باريس، مثل المدرسة العليا للأساتذة، المدرسة العليا للتجارة، المدرسة الوطنية للإدارة، المدرسة المتعددة التقنيات…

 المدرسة العليا للأساتذة-القبة

لقد حاولت الجزائر تبنّي مناهج الدراسة في فرنسا حسب المتاح من الإمكانيات. وهكذا فتحت المدرسة العليا للأساتذة بالقبة عام 1964، وهي أقدم هذا النوع من المدارس. وكان يتخرج منها طلبة في جميع الاختصاصات (العلوم الإنسانية والدقيقة والبيولوجية). ومن القوانين السارية في نظام المدرسة آنذاك أن 10% من كل دفعة، يمكنهم مواصلة دراستهم العليا والالتحاق فيما بعد بالتعليم العالي. ولذا أصبح الكثير من خريجي المدرسة ضمن نواة سلك التعليم العالي في عدة معاهد.

والجدير بالملاحظة أن حتى منتصف السبعينيات، كان طلبة المدرسة يزاولون دراستهم بالجامعة المركزية، وتقوم المدرسة بدعم تكوينهم من خلال دروس إضافية يشرف عليها أساتذة الجامعة المركزية. وبعد التخرج من الجامعة يقضي طالب المدرسة سنة كاملة في التربصات الميدانية والتكوين البيداغوجي النظري. ثم تطورت المدرسة واستقلت عن الجامعة وصار طلبتها يتلقون كل دروسهم في المدرسة ذاتها. وفي نفس الوقت، تخصصت القبة في العلوم الدقيقة والبيولوجية إضافة إلى الموسيقى. وظلت نسبة من خيرة الخريجين يُسمح لها بمواصلة الدراسة العليا والالتحاق بالتدريس في الجامعات.

وأدى تطور المدرسة في نهاية الثمانينيات إلى فتح أولى فروع الماجستير، حتى بلغ عددها في الرياضيات وحدها 5 فروع (الجبر، المعادلات تفاضلية، المعادلات تفاضلية جزئية، الرياضيات التطبيقية، التعليمية وتاريخ الرياضيات)، وبعد ذلك فتحت فروع الدكتوراه العلمية في مطلع هذا القرن. وقد تزايد عدد المدرّسين بالمؤسسة بتزايد عدد الطلبة فأصبح الآن يتجاوز 300 مدرّس، منهم أكثر من 120 دكتورا ونحو 50 مدرسا برتبة ”أستاذ التعليم العالي”، وهي أعلى مرتبة في سلك التعليم العالي.

وعليه كان المسار الطبيعي لهذه المؤسسة التي تتبع المنوال الفرنسي السابق والحالي هو إنشاء مخابر بحث. وذلك ما تم منذ فتح المجال لإنشاء مخابر بحث على مستوى التعليم العالي. ويوجد الآن بالمدرسة 14 مخبر بحث، منها 4 في الرياضيات و 4 في البيولوجيا و 3  في الفيزياء، وأخرى في الكيمياء وتعليمية العلوم.

وتربط المدرسة اتفاقيات تعاون متنوعة وإشراف مشترك على طلبة الدراسات العليا مع المدرسة الوطنية العليا للفلاحة بتولوز وكذا المعهد الوطني المتعدد التقنيات لنفس المدينة (ENSAT-INP)، وجامعة بو Pau (فرنسا) وجامعة السوربون، وجامعة سانت إتيان، ومتحف فلورنسا (إيطاليا)، ومعهد النمسا للتكنولوجيا AIT (فيينا). أما الاتفاقيات مع المؤسسات الوطنية في المجال الاقتصادي والاجتماعي فيشمل سونطراك، ومعهد الوطني للفلاحة، والمؤسسة العمومية للتغذية وتربية الدواجن والحدائق الوطنية في شريعة وتكشدا وثنية الحد.

ومن جهة أخرى، فمعظم أعضاء سلك التعليم بالمدرسة تابعون لفرق بحث معتمدة لدى المديرية العامة للبحث العلمي بوزارة التعليم العالي. وقد بلغ عدد هذه المشاريع في مختلف التخصصات العلمية والتعليمية 30 فريقا، وتعمل هذه الفرق ضمن 13 محورا في العلوم الدقيقة والتربوية والبيولوجيا والموسيقى وتاريخ العلوم. ونتج عن هذا النشاط في البحث العلمي خلال الـ 5 سنوات الماضية نشر ما لا يقلّ عن 300 بحثا في المجلات العالمية المحكمة و 80 بحثا في المجلات الوطنية. وإضافة إلى ذلك قدم هؤلاء الباحثون أزيد من 270 مداخلة في ملتقيات دولية و 300 أخرى داخل البلاد.

الوزارة تكسر الجهود

وفي نفس الفترة سجل في الدكتوراه 270 طالبا، ونال هذه الشهادة أكثر من 100 طالب، وثلاثة أضعاف هذا العدد تحصلوا على الماجستير. وصنفت المديرية العامة للبحث العلمي بوزارة التعليم العالي مدرسة القبة عام 2018 في مجال البحث العلمي في المرتبة السادسة من بين الـ 40 مؤسسة من المدارس العليا والوطنية، وفي المرتبة الـ 50 من بين الـ 103 مؤسسة جامعية في الوطن.

كل هذه الانجازات التي لا زالت متواصلة إلى اليوم، لكن ذلك لم يمنع كبار مسؤولي وزارة التعليم العالي من كسر هذه الجهود والعمل على غلق باب الدراسات العليا في هذه المؤسسة بعدة طرق : بدأت العملية بغلق الماجستير بحجة أن الجامعات دخلت نظام “ل م د” في حين أن المدرسة (ومعها كل المدارس العليا للأساتذة) لا زالت تعمل بنظام خاص بها.

ولذرّ الرماد في العيون فتحت الوزارة، تحت الضغط، ماستر في التعليميات دون المواد العلمية التي يختص فيها معظم الأساتذة والمخابر… ودليل عدم الجدية أن التكوين انطلق في شهر جانفي!! ثم إنها فتحت الماستر لمن تم توظيفهم في المتوسط وظروفهم المهنية لا تتيح لهم عموما حضور الدروس. وبعد سنة، وتحت الضغط، سمحت بفتح ماستر “علمي” في بعض التخصصات معظم طلابها من الفئة السابقة الذكر!

وبعد هذا التكوين، ما عسى هذا الخريج أن يفعل بشهادته في التعليمية إن لم يفتح له باب الدكتوراه في هذا الاختصاص؟ وأية مؤسسة تضمن هذا التكوين غير المدرسة العليا للأساتذة؟ هذه الوضعيات معروفة لدى المسؤولين لكنهم يغضون الطرف لكسر الدراسات العليا في هذه المؤسسات.

فخطة هؤلاء المسؤولين تؤدي إلى غلق باب التسجيل في الدكتوراه بالمدرسة الذي كان مفتوحا منذ قرابة 20 سنة، كما أن الوزارة لم تجدد الإذن لهذه المؤسسة بإتاحة التسجيل في التأهيل للأساتذة المحاضرين (صنف ب) في حين كان هذا الأمر متوفرا منذ سنوات عديدة. يحدث ذلك في الوقت الذي نجد مؤسسات جامعية أخرى لا تحظى من الإمكانيات العلمية البشرية والهيكلية بعُشُر ما لدى مدرسة القبة ورغم ذلك تتيح لها وزارتنا ما لا تتيحه للمدرسة في مجال التكوين الخاص بالدراسات العليا.

ولعله من المفيد التذكير بأن الاحتقار المفضوح للمدارس العليا للأساتذة لا تنفرد به وزارة التعليم العالي وحدها بل تشاركها فيه وزارة التربية! كيف لا يكون الأمر كذلك وهذه الوزارة قامت أكثر من مرة بتنظيم مسابقات توظيف الأساتذة دون أن تعير اعتبارا لأصحاب الحق الأول في التوظيف، وهم خريجي المدارس العليا للأساتذة بحكم طبيعة تكوينهم؟ ألم تتوقف الدراسة في هذه المدارس -احتجاجا على هذا الإجراء- دام شهورا أدى إلى تأخير الدخول الجامعي بها إلى آخر نوفمبر 2018!

كيف لا نستنكر، والحال هذه، تعامل مسؤولي الوزارتين مع المدارس العليا للأساتذة؟ فهو سلوك مبيّت لأمر في نفس يعقوب… ولو كان القانون يعاقب حقًا العابثين لما تمادى هؤلاء المسؤولين في أفعالهم المؤذية.

مقالات ذات صلة