الرأي

العلمانيون بين الجهل بالإسلام والكفر به

رشيد بركات
  • 6332
  • 60
الأرشيف

لقد أخرجت حادثة صلاة الجماعة، التي أقامها بعض المواطنين في مدينة ورقلة أثناء احتجاجهم على سوء تسيير المال العام، العلمانيين من جحورهم مستغلين هذه الحادثة لتحريض السلطات ضدهم وضد أي احتجاج هكذا نوعه، مع أن الاحتجاجات السلمية مسموح بها في الدستور الجزائري بل ومشروعة بحكم الشرع الإسلامي رغم أنوف السلفيين والمدخليين الذين يحرِّمونها بل ويحرِّمون جميع أنواع التجمعات والإضرابات والمسيرات اتِّباعا للحكام والملوك والأمراء المتغلبين الذين يمنعونها.

هذا التحريض من العلمانيين يؤكد ما سبق معرفته عنهم وهو أنهم إذا حكموا في البلدان التي يوجد بها تيارٌ إسلامي منعوه من النشاط وفتحوا لنشطائه ومناصريه المعتقلات، وإذا كانوا خارج السلطة ساندوا أي حاكم مستبد بهم أو منقلب عليهم بالقوة العسكرية رغم ادِّعائهم الاحتكام للديمقراطية والتنافس مع خصومهم السياسيين بوسائلها، وأمثلة مواقفهم في ذلك كثيرة.

وقد دفعني ردود أفعالهم وتصريحاتهم التي أعقبت تلك الحادثة لكتابة هذه الكلمات عساها تُساهم في فهم حقيقة رفض عامة الجزائريين العلمانية كأسلوب لتسيير الشأن العام وخاصة إذا علمنا أن اللائكية تمثل مع ثقافة ولغة المستعمر أهم مميزات المشروع التغريبي الفرنكوفيلي الذي يُراد له الانتشار والسيادة في بلدنا الجزائر المسلمة.

بإمكاننا إرجاع الخلاف بين الرافضين للعلمانية ـ وهم الأغلبية الساحقة من المسلمين في العالم ـ والمدافعين عنها إلى سوء فهم الكثير من هؤلاء للإسلام وجهلهم بخصائصه، وهذا إذا التزمنا بتصريحاتهم التي يؤكدون فيها أنهم مسلمون. وننبه إلى أن ما سنذكره لاحقا من إيضاحات وردود لا يعني العلمانيين الذين يجاهرون بكفرهم، ذلك لأن أصل الخلاف مع هؤلاء هو في الإقرار بالإسلام وليس في سوء فهمهم له وجهلهم بحقيقته.

ونرى الأحوط التعامل مع العلمانيين بما يصرحون به واعتبارهم جهلة بالإسلام الحقيقي إلى حين إقامة الحجة عليهم خوفا من الوقوع في شناعة التكفير، فلا شك أن خطأ الإقدام على تكفير شخص لشبهة أو لاشتباه في أمره أخطر من التوقف والإحجام عن ذلك، قال العلامة ابن الوزير “إن الوقف عن التكفير عند التعارض والاشتباه أولى وأحوط وذلك أن الخطأ في الوقف على تقديره تقصير في حق من حقوق الله وهو الغني الحميد العفوّ الواسع أسمح الغرماء وأرحم الرحماء وأحكم الحكماء سبحانه وتعالى، أما الخطأ في التكفير على تقديره أعظم الجنايات على عباده المسلمين المؤمنين وذلك مضاد لما أوجب الله من حبهم ونصرهم والذبّ عنهم” إيثار الحق على الخلق 403. كما أن تكفير المسلم مشروط بعلمه أن ما يعتقده كفر وربما أغلب العلمانيين المقرين بالإسلام يجهلون أن العلمانية كفر وضلال قال الشيخ العثيمين (للحكم بتكفير المسلم شرطان: أحدهما: أن يقوم الدليلُ على أن هذا الشيء مما يُكفِّر. والثاني: انطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون عالماً بذلك قاصداً له، فإن كان جاهلاً لم يكفّر) فتاوى العقيدة 263.

والمعروف عند المشتغلين بالعلوم التي يتمحور اهتمامها حول سلوك وتصرفات الإنسان هو أن موضوع السياسة يشمل نوعا من التصرفات التي يمارسها الناس في حياتهم وتتعلق بشأنهم العام الذي يشتركون فيه. وأهم ما يميز حياة الأفراد في التجمع البشري المنظم سياسيا هو وجود سلطة تمارس القهر المادي لفرض أو منع سلوكيات ومعاملات للحفاظ على المصالح  الجماعية والمشتركة بين الناس الموجودين تحت نفوذها.

كما أنه من المعلوم هو وجود سلطات متعددة ومتنوعة في المجتمعات البشرية كالتي يُمارسها أرباب العائلات أو شيوخ القبائل أو المشرفون على التنظيمات الاجتماعية كالنقابات والجمعيات والأحزاب أو القائمون على المؤسسات الاقتصادية أو رؤساء وملوك الدول أو الوزراء أو القضاة وغيرها من السلطات. ومن خصائص أي تصرُّف يُطلق عليه وصف سلطة هو اقترانه بجزاء، إلا أن ما يُميز السلطة السياسية عن غيرها من السلطات هو طبيعة الجزاء المصاحب لها إذ هو من نوع الجزاء الذي يقوم على الإجبار بالقوة المادية.

وإن خطأ العلمانيين المعتبرين أنفسهم مسلمين هو اعتقادهم أنه لا يوجد في الإسلام إلا الجزاء الأخلاقي والمتمثل في ذم المخالفين لأحكامه والإنكار عليهم باللسان فقط أو الجزاء الأخروي الذي سيلقاه من يستحقه منهم في الآخرة، أما الجزاء المادي الدنيوي فلا وجود له إطلاقا في الشريعة الإسلامية حسبهم. وبنظرة عابرة لما جاء في الكتاب والسنة يمكن التأكد من ورود في بعض نصوصهما أحكاما تسمى الحدود كحدّ الخمر والسرقة والزنا والقذف وهي عبارة عن أحكام وجزاءات تستلزم لتطبيقها وجود سلطة ذات طبيعة سياسية وقد طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره حاكما وطبقها من بعده الخلفاء الراشدون. كما يوجد في الإسلام أحكامٌ أخرى تسمى التعزيرات، والتعزير عبارة عن جزاء للجرائم التي لا حدّ فيها، وتحديد نوعه ومقداره متروك للحاكم بما يحقّق الزجر والصلاح العام. ومن أشهر أنواع التعزير الذي مارسه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وإن كان في حالات قليلة هو حبس الأشخاص ومنعهم من حرية التنقل خارج مكان معين ومحدد، فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حَبَس في تهمة) حسّنه الترمذي وصحّحه الحاكم، كما مارسه من بعده الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم. ويعدّ الخليفة عمر رضي الله عنه أول من بنى السجن في المجتمع الإسلامي باعتباره المكان الخاص بهذا النوع من التعزير بعدما كان يمارَس في عدة أماكن كالمساجد والخيام والسراديب الملحَقة بالبيوت. ويعدّ حبس الأفراد لاقترافهم جرائم أحد أنواع العقوبات التي تمارسها كل الدول في عالمنا المعاصر وتنفرد بتطبيقه وتنظيمه سلطاتها السياسية دون غيرها.

كما أن الإسلام أوجب تغيير المنكر باليد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده) ويمكن اعتبار لفظ (اليد) هنا مجازا عن الإجبار والقهر المادي وهذا الواجب ملزَم به كل فرد في المجتمع إلا أن عامة الفقهاء خصصوا بعض أنواع تغيير المنكر باليد كاستعمال السلاح وإقامة الحدود والتعزير بالحاكم وولي الأمر دون غيره من الرعية. فكيف يصح اعتقاد إمكانية منع ـ مثلاـ جرائم قطاع الطرق دون إقامة سلطة تستعمل السلاح وتقيم حدّ الحرابة عليهم كما ورد في القرآن الكريم أو يُعتقد تحقيق ذلك بالإنكار على هؤلاء باللسان وتخويفهم بعذاب الله في الآخرة فقط؟

وانطلاقا من إدراك خصائص الأحكام الإسلامية التي مرّ ذكرناها كأمثلة يتأكد خطأ من ينكر وجود أحكام في الإسلام تختص بحياة المسلمين الجماعية كما يظنه العلمانيون، فاعتقاد أن الإسلام دين ودولة بمعنى أن بعض أحكامه تستلزم قيام سلطة سياسية في المجتمع لتطبيقها وتنظمها من أوجب واجبات الشخص الذي يريد أن يكون مسلما حقيقيا. ومن هنا يظهر ضلال من يقول لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين أو يقول لا يوجد إسلام سياسي، قاصدا إبعاد إحكام الإسلام عن حياة الناس السياسية والشأن العام.

وربما وجب هنا ـ في مقابل بيان ضلال اعتقاد العلمانيةـ تنبيه بعض المسلمين إلى خطأ إدخالهم بعض الأحكام الإسلامية في صلاحيات الحكام بحيث يُجبرون الناس عليها بالقوة، وهي في الحقيقة ليست مما يتعلق بها الإكراه المادي بل هي من جنس ما يلتزم به الفرد طواعية دون أن يلزمه حاكمٌ بها وهي التي تُعرف بأحكام الفتوى. وقد ذكر الفقهاء من تلك الأحكام العقائد وهذا ما عنته الآية الكريمة (لا لإكراه في الدين) ويؤكد هذا المعنى بقاء اليهود والنصارى تحت حكم دولة الإسلام وعاشوا في ظلها بعقائدهم الكافرة ولم يجبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون على الدخول في الإسلام. أما الجزية التي تُفرض عليهم والتي يأخذها الحكام عنهم بالإجبار فالواجب أن يُنظر إليها على أنها في مقابل حمايتهم وإعفائهم من الجهاد ومن الزكاة، مع العلم أن الزكاة هي الأخرى تؤخَذ من المسلمين بالإجبار مثلها مثل الجزية.

كما لا يصح رفع خلافات المسلمين في مجالات العقيدة والعبادات للحكام والقضاة ليفصلوا فيها ويجبروا بالقوة أحد الأطراف المختلفة لاعتناق اعتقاد صاحبه أو حكم تعبدي يذهب إليه مع أن من صلاحياتهم الفصل في الخصومات، قال الإمام القرافي (وأدلة الشريعة وحجاج الخصومة المختلف فيها مثل الشاهد واليمين ونحوه إنما وقع النزاع فيه لأمر الآخرة لا لمصلحة تعود لأحد المتنازعين في دنياه بل النزاع فيها كالنزاع في العبادات) الإحكام ص89 وأضاف قائلا (اعلم أن العبادات كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم البتة بل الفتيا فقط. فكل ما وجد فيها من الإخبارات فهي فتيا فقط فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة) كتاب الفروق الفرق 224 وقال الإمام ابن تيمية (إنما ينفذ حكم الحاكم في الأمور المعينة التي يختص بها من الحدود والحقوق مثل قتل أو قذف أو مال أو نحوه دون مسائل العلم الكلية مثل التفسير والحديث والفقه وغير ذلك … وكذلك في باب العبادات في مثل كون مس الذكر ينقض الوضوء أو لا وكون العصر يستحب تعجيلها أو تأخيرها والفجر يُقنَت فيه دائما أو لا أو يقنت عند النوازل ونحو ذلك… وكذلك الناس إذا تنازعوا في باب العقيدة) مجموع الفتاوى 3/238. وقد عقد العلامة القاضي ابن فرحون في كتابه (تبصرة الحاكم في أصول الأقضية ومناهج الأحكام) فصلا استوفى فيه ما يفتقر لحكم الحاكم ومالا يفتقر إليه وتبعه القاضي علاء الدين الطرابلسي في كتابه (معين الحكام).

وبالفعل وقع خلافٌ بين فقهاء المسلمين في طبيعة بعض أحكام الإسلام هل هي من أحكام الإلزام بحكم الحاكم أو من الفتوى؟ وقد قسموا تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنواع فاتفقوا على أن بعضها من تصرفاته بالحكم والقضاء كإقامة الحدود وتعيين الولاة وتوزيع الزكاة وجمعها والفصل بين المتنازعين في الحقوق والأموال… وغير ذلك، كما اتفقوا في البعض الآخر من تصرفاته بالفتوى كالعبادات والعقيدة، إلا أنهم اختلفوا في نوع ثالث هل هو من الحكم أو الفتوى كتمليك الأرض لمن يزرعها وسلب المجاهد المسلم من قتله في حرب بين المسلمين والكفار. وعليه يبقى النقاش والاختلاف الوحيد المقبول شرعا في هذا الباب هو في طبيعة أحكام النوع الثالث وليس في جواز أو عدم جواز العلمانية التي لا تعترف بأي حكم من أحكام الإسلام لتسيير الشأن العام وسياسة المصالح العامة للمجتمع.

هذا التحريض من العلمانيين يؤكد ما سبق معرفته عنهم وهو أنهم إذا حكموا في البلدان التي يوجد بها تيارٌ إسلامي منعوه من النشاط وفتحوا لنشطائه ومناصريه المعتقلات، وإذا كانوا خارج السلطة ساندوا أي حاكم مستبد بهم أو منقلب عليهم بالقوة العسكرية رغم ادِّعائهم الاحتكام للديمقراطية.

نرى الأحوط التعامل مع العلمانيين بما يصرحون به واعتبارهم جهلة بالإسلام الحقيقي إلى حين إقامة الحجة عليهم خوفا من الوقوع في شناعة التكفير، فلا شك أن خطأ الإقدام على تكفير شخص لشبهة أو لاشتباه في أمره أخطر من التوقف والإحجام عن ذلك.

مقالات ذات صلة