-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

القرآن والتديّن.. هل يصنعان التفوّق؟

سلطان بركاني
  • 806
  • 0
القرآن والتديّن.. هل يصنعان التفوّق؟

بعد أيام وأسابيع من الترقب والانتظار؛ ترقبٌ بلغ ببعض القلوب الحناجر، وانتظار أقلق آلاف العائلات؛ أُعلن الإثنين الماضي عن نتائج امتحان شهادة التعليم الثانوي (البكالوريا).. وكعادتها؛ حملت أجواء الإعلان دروسا وعبرا تستحقّ أن يقف عندها الأبناء والأولياء على حدّ سواء، لضبط البوصلة أكثر وإعادة ترتيب الأولويات بما يمكّن أبناءنا من الظّفر بالنّجاح في الدّارين.
لعلّ من أجلى الدروس التي حملتها أجواء ظهور النتائج هذا العام، كما في كلّ عام، أنّنا ينبغي ألا ننسى أنّ امتحان البكالوريا هو جزء صغير من امتحان أعمّ وأهمّ هو امتحان الحياة الذي يخوضه كلّ عبد في هذه الدّنيا: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور)) (الملك: 2).. البكالوريا امتحان مهمّ ونحن ينبغي أن نشجّع أبناءنا على الاهتمام به وبذل الوسع للنجاح فيه، لكن ينبغي ألا يجعلنا ذلك ننسى وننسيهم أنّ هناك امتحانا أهمّ يخوضون غماره وأنّ عليهم أن يكونوا أكثر اهتماما بالنجاح فيه، هو امتحان العمر؛ فالعبد يمكن أن ينجح -بفضل الله- في هذا الامتحان فيكون ممّن ربحوا أعمارهم وأنفسهم وفازوا برضوان الله أو على الأقلّ بعفوه، كما يمكن أن يكون ممّن خسروا أعمارهم وأنفسهم وحاق بهم مقت الله وغضبه.. الأكمل للعبد أن ينجح في كلّ الامتحانات، امتحانات الدّنيا وامتحان الآخرة، ويجمع بين الحسنيين، كما قال الله تعالى: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب)).. لكن لو أنّ عبدا نجح في كلّ امتحانات الدّنيا، ثمّ خسر في امتحان الآخرة ما نفعته كلّ النجاحات الأخرى: ((فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)).
ربّما يهتمّ التلميذ بامتحان البكالوريا ويجهد نفسه في التحضير له، لكنّه يموت قبل اجتيازه، كما حصل هذا العام مع طالب من بلدية “واد غير” ولاية بجاية حين دهسه قطار لنقل المسافرين بينما كان (أي الطّالب) في طريقه لاجتياز الامتحان، نسأل الله أن يتغمّده بواسع رحمته.. وربّما يجتاز التلميذ الامتحان ويموت قبل ظهور النتائج، وتظهر نتيجة عمله للآخرة قبل أن تظهر نتيجة عمله في امتحان البكالوريا. كما حصل مع تلميذ من بلدية بين الويدان دائرة تمالوس ولاية سكيكدة؛ توفي أياما بعد إنهاء امتحان البكالوريا، إثر سقوطه في بئر بعمق 6 أمتار، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
النّظر إلى امتحان البكالوريا على أنّه جزء من امتحان أهمّ وأعمّ، لا يجعل التلميذ يزهد في هذا الامتحان ويهمله، بل على العكس من ذلك يجعله يستحضر فيه النية الصّالحة ليكون اجتهاده فيه جزءً من عمله للامتحان الأهمّ، ويشحذ همّته ليكون ناجحا متفوّقا فيه، حتّى لا يأخذ من حياته وقتا أكثر ممّا يفترض فيه أن يأخذه، وحتّى لا يصنع الإخفاق في الامتحان عثرة في طريقه تعطّل سيره ومسيرته.
نحن، في واقعنا، نصوّر لأبنائنا أنّ امتحان البكالوريا هو أهمّ امتحان يخوضون غماره في حياتهم، وأنّ مستقبلهم كلّه يتوقّف على النّجاح في هذا الامتحان، فيدخل كثير منهم في حالة من الخوف والتوتّر والاضطراب، حين يرون أنّ قضية النجاح في هذا الامتحان قضية حياة أو موت. فإذا ما أعلنت النتائج وظهر أنّهم لم يوفّقوا في الامتحان أصيبوا بالكآبة وربّما وصل بهم الأمر إلى الدّخول في أزمات نفسية، وقد يصل الأمر إلى الوفاة، كما حصل هذا العام لتلميذ من ولاية معسكر، توفي بسكتة قلبية عندما سمع أنّه حصل على معدل 9٫99 في امتحان شهادة البكالوريا.. بل قد يصل الأمر ببعض التلاميذ إلى الانتحار إذا حرموا النجاح، وقد حصل هذا كثيرا.
وفي المقابل؛ ربّما يكتب النّجاح لأحد الممتحنين، فينسى فضل الله عليه، وبدلا من أن يحمد خالقه ويسجد شكرا له، إذ به يحتفل بالغناء والرقص والتمايل، لأنّه تعلّم أنّ نجاحه مرهون بجدّه واجتهاده وتعبه، ولم يتعلّم أنّ النجاح توفيق من الله قبل كلّ شيء، وهؤلاء هم في الغالب من ينجحون في الامتحان بمعدلات متواضعة، وربّما تجدهم قبيل امتحان البكالوريا وفي أيامه يصلّون ويدعون ويدعو لهم والدوهم، ويطلبون الدّعاء يوم الجمعة، ويحملون قنينات الماء إلى الأئمّة ليرقوا لهم.. لكنّهم عندما تظهر النتائج ينسون كلّ هذا: ((وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِه)).
من حقّنا أن نهتمّ بنجاح أبنائنا في هذا الامتحان، لكن ليس إلى الحدّ الذي يجعلنا ننظر إليه على أنّه البداية والنهاية.. امتحان البكالوريا يمكن أن يعوَّض الإخفاقُ فيه بالنجاح في عام قابل، وكم من طالب رسب في الامتحان أوّل مرّة، ثمّ نجح في المرّة الثانية بمعدّل جيّد.. علينا أن نعلّم أبناءنا أنّ واجبهم هو تقديم الأسباب، وأنّ النتائج عند الله، بل لله الأمر من قبل ومن بعد، والخيرة فيما اختاره سبحانه، فقد يؤخّر الكريم النجاح لحكمة يعلمها، قد يكون فيها خير الدّين والدّنيا.. كم من طالب أخفق في امتحان شهادة البكالوريا، وفتح الله له بابا آخر في الحياة دخل منه وأتمّ مشوار حياته، ونجح بفضل الله في مجال آخر، ولم تتوقف حياته عند امتحان عابر.

هل القرآن والتديّن يصنعان التفوّق؟
من الدروس التي حملتها نتائج البكالوريا هذا العام، ككلّ عام، أنّ النجاح في امتحانات الدّنيا لا يمرّ أبدا على طريق التفريط في امتحان الآخرة، وأنّ التفوّق لا يستلزم الانشغال بالدّنيا على حساب الدّين.
نحن في بيوتنا الآن نخاف على أبنائنا إن هم داوموا على حفظ كتاب الله وعلى حضور حلقات تحفيظ القرآن في المساجد والمدارس القرآنية، نخاف عليهم أن يفشلوا في امتحاناتهم الدّراسية! نخشى أن يشغلهم القرآن وتشغلهم الصلاة في المسجد عن دراستهم وعن التحضير الجيّد للامتحانات! تقول الأمّ لابنها: “اقطع حفظ القرآن حتى تكمل الامتحانات”، ويقول الأب لابنه: “صلّ في البيت حتى تكمل الامتحانات”.. بل ربّما تجد الوالدين يحضّان ابنهما على أن يخرج بين الحين والآخر في فترة التحضير للامتحانات، ليُروّح قليلا عن نفسه، لكن عندما يتعلّق الأمر بالصلاة في المسجد أو حضور حلقة القرآن، يقولان له: “أمامك امتحانات مهمّة؛ راجع دروسك”.
يحدث هذا في بيوتنا ويتكرّر مع أنّنا نرى في كلّ عام كيف أنّ كثيرا من المتفوّقين في الامتحانات الرسمية هم من طلبة المدارس القرآنية ومنهم من يحفظ كتاب الله تعالى. من المتمسّكين بدينهم، المهتمّين بالقرآن، المحافظين على الأخلاق الحسنة والسمت الحسن.
المتفوّقون في امتحان البكالوريا هذا العام، أعادوا إلى أذهاننا هذا الدّرس بكلّ وضوح.. التلميذ الذي ظفر بالمرتبة الأولى على مستوى الوطن، ابننا محمد الأمين بن قداش، من ولاية غليزان، الذي حاز معدّل 19.5 طالب -ما شاء الله- حافظ لكتاب الله، مظهره مظهر سمت شابّ مسلم، لا يلبس سراويل مقطّعة أو ضيّقة ولم يقصّ شعره قصّة غريبة، كلامه عامر بحمد الله وشكره.. عندما سئل عن سر تفوّقه، قال: “سر التألق هو التوكل على الله والأخذ بالأسباب كأنها كل شيء.. الطالب يراجع ويسأل الأساتذة، ويبحث ويجتهد، ولكن قلبه معتمد على الله تعالى لأنه هو الأساس، وكثرة الدعاء والأعمال الصالحة هي الأساس”، وعندما سئل عن حاله حينما تلقى خبر تفوّقه، قال: “الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. بالنسبة للخبر الذي تلقيته من وزير التربية كان جد مفرح. أخبرني بأنني حصلت على أعلى معدل وطنيا في شهادة البكالوريا 19.50. وهذا كان جد مشرف وجد مفرح.. أسأل الله تعالى أن يديم هذا الفضل وأن يبارك فيه وأن يتمه بالخير”.
صاحب المرتبة الثانية وطنيا، ابننا أسامة دعاشي، من ولاية سطيف الذي حصّل معدّل 19.32 -ما شاء الله-، هو الآخر لا يلبس السراويل المقطّعة أو الضيّقة، ولا يضع الملمّعات على شعره ولا يقصّ شعره قصّة غريبة مزرية.. يحمد الله ويشكره وينسب الفضل الأوّل لله.
صاحبة المرتبة الثالثة وطنيا، ابنتنا إيمان فاطمة الزهراء هلال، من ولاية سعيدة، التي حصّلت معدّل 19.32، ما شاء الله، تلميذة صاحبة خلق، محجّبة، حيية، لم يكن همّها أن تتميّز بين صويحباتها باتباع الموضة ولبس كلّ فاقع ولافت، إنّما كان همّها أن تكون قدوة بأخلاقها وحيائها، تحمد الله وتشكره وتنسب الفضل في نجاحها لمولاها سبحانه.
هذه هي ثمرات التربية على حبّ الدّين وحبّ الله تعالى والتوكّل عليه، هذا نتاج الأسرة الصالحة التي تربّي أبناءها على أنّ النّجاح والتفوّق بيد الله أولا.. وهذا معدن التلاميذ الذين يتربّون في المدارس القرآنية على أخلاق القرآن.
انظري أيتها الأمّ وعلّمي بناتك أنّ الحجاب الواسع لا يكون عائقا في طريق النجاح والتفوّق والتميّز.. تأمّل أيها الأب وعلّم أبناءك أنّ التلميذ الذي يقصّ شعره قصّة عادية ويرفض لبس السراويل الضيقة والمقطّعة، اختياراته هذه لا تدلّ حاله على أنّه قديم ومتخلف و”ديمودي” كما يقول كثير من أبنائنا.. المحجّبة تستطيع أن تكون متفوّقة، وطالب المدرسة القرآنية المتأدّب بآداب القرآن في أخلاقه ومظهره وسمته، يمكن أن يكون الرقم واحد في دراسته، ولن تضرّه أبدا كلمات عبيد المظاهر.
قلّبوا أيها الآباء صفحات مواقع التواصل بحثا عن أصحاب المراتب الأولى على مستوى ولايات الوطن، وانظرن أيتها الأمّهات في سمت المتفوّقات، وأرين بناتكنّ صور المتميّزات في دراستهنّ وأسمعنهنّ كلمات المتفوّقات لعلّ بناتكنّ يدركن أنّ الحجاب والحياء لم يكونا -يوما- عائقا في طريق التفوّق.
لسنا نقول إنّ الاهتمام بالقرآن والدّين هو السّبب الوحيد في النّجاح والتفوّق، ولا نقول إنّ المتفوقين كلّهم من حفظة القرآن ولا كلّ المتفوّقات محجّبات.. لكنّنا نقول إنّ الاهتمام بالقرآن والدّين سبب من أعظم وأهمّ أسباب النجاح في الدّنيا والآخرة.. هناك أسباب أخرى كالاجتهاد والمثابرة والعزيمة، لكنّ دور القرآن والتديّن الصّحيح في شحذ العزائم وإعلاء الهمم والحضّ على التميّز والتفوّق، لا ينكره إلا مكابر؛ كيف لا ورسول الإسلام -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: “إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها” (صحيح الجامع).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!