-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

القراءة الإستراتيجية لمعركة طوفان الأقصى

ناصر حمدادوش
  • 959
  • 0
القراءة الإستراتيجية لمعركة طوفان الأقصى

لابد من الارتفاع في قراءة الأحداث المتسارعة من المستوى التكتيكي في عالم الأشخاص والأشياء إلى المستوى الاستراتيجي في عالم الأفكار والقيم، وهي القراءة التي تتجاوز لغة الأرقام في الواقع المشاهَد والمتحرِّك -وإن كانت مهمًّا في استكمال زوايا الرؤية- إلا أنها لا تلهينا عن القراءة الكلية، والتحليل الاستراتيجي، والاستشراف المستقبلي.
ومن القراءة الإستراتيجية للأحداث عدمُ إغفال السِّياق الذي وقعت فيه، إذ أنَّ لمعرفة السياق أهميةً بالغةً في الفهم والتحليل، من أجل معرفة القيمة الحقيقية والمعنى الصحيح لها.
وفي تاريخ الصِّراعات هناك جولاتٌ للتدافع على مستويات عدَّة، ومن الخطأ الانحباس عند مستوى دون غيره، فهناك عدة مستويات، منها:
1/ المستوى المعلوماتي والعملياتي للمعارك: وهو مستوى الأرقام والأشخاص والأحداث، وهو ما تعجُّ بها الشاشات ووسائط التواصل الاجتماعي الآن، ويتأرجح بين واقع الانتصار والانكسار لأطراف الصِّراع، وهو أمرٌ طبيعيٌّ وفق سنة المداولة، كما قال تعالى: “إنْ يمسسكم قرحٌ، فقد مسَّ القوم قرحٌ مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس..” (آل عمان: 140)، وهو الذي لا نتنزَّه فيه عن الألم، إلا أننا لا ننسى بأنه ألمٌ متبادل مع العدو، كما قال تعالى: “إن تكونوا تألمون، فإنهم يألمون كما تألمون..” (النساء:104)، وهو المستوى الذي قد يفقد فيه البعض البوصلة في الفهم والتحليل، عندما يغرقون في فنجان الواقع؛ فنجان العواطف والانفعالات مع الفعل وردِّ الفعل، ولا نتطلع إلى النظر العقلي في عالم الأفكار، كما قال تعالى: “.. فاقصص القصص لعلهم يتفكرون” (الأعراف:176).
2/ المستوى الاستراتيجي الأعلى
وهو مستوى تجاوز الأحداث الآنية، إذ مهما كانت الكلفة البشرية والمادية لشراسة العدو في عالم الأرقام، وهول الأحداث، وخسارة الأشخاص، فإن نتائج المستوى الاستراتيجي يتجاوز الصورة الخادعة في عالم الشهادة الظرفي، كما قال تعالى: “ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتًا، بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون” (آل عمران:169)، وهذه الحياة ليست حياةً أخرويةً فقط، بل تبعث تضحياتُ الشهداء ودماؤهم الحياةَ في الأمة من بعدهم، كما قال الشهيد سيد قطب رحمه الله: “إنَّ كلماتِنا ستبقى عرائسَ ميِّتة من الشُّموع، حتى إذا مِتنا في سبيلها دبَّت فيها الرُّوح، وكُتبت لها الحياة”.
لقد كسَّرت المقاومة هيبة العدو لدى الرأي العام العالمي في معركة #طوفان_الأقصى يوم 07 أكتوبر 2023م، وأثبتت جرأتَها وشجاعتها غير المسبوقة، بامتلاكها القرار السيادي المستقل، وحيازتها الحصرية على عنصر المفاجأة فيها، وأنها مستعدَّة للتضحية الكبيرة من أجل تحرير الأرض والإنسان، كما يفعل الشُّرفاءُ والأحرار في كلِّ حركات التحرُّر في العالم، وهذا الحقُّ والواجب ليس حِكرًا على شعبٍ دون غيره، وهو وفق التصوُّر العقدي الإسلامي أشدُّ قدسيةً ونُبلاً، على اعتبار أنه جهادٌ واستشهادٌ في سبيل الله، وقد قال الله تعالى: “.. ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ” (التوبة:120)، وكلما ازدادت وحشية العدو الصهيوني، تفجَّرت معاني المقاومة له، وغذَّت روح الجهاد والاستشهاد الوجدان ضدَّه.
وعنصر الشجاعة والتضحية هو العقيدة القتالية الأقوى في الصِّراعات والحروب والمواجهات، وبالمقابل فإنّ مثل هذه الهزَّات العنيفة وغير المتوقعة للعدو لها أثرٌ سلبيٌّ عميقٌ على نفسية وعقيدة الجيش الصهيوني.
وهو ما يعني أنَّ كشف الحساب لنتائج الرِّبح والخسارة يتجاوز سطحية نتائج اللحظية الآنية، وحجم الكُلفة المادية الرقمية المؤلمة، وستكون لها – لا محالة- تداعياتٌ سياسيةٌ وفكريةٌ كنتائج إستراتيجية مستقبلية لصالح عدالة القضية، كما قال تعالى: “.. لا تحسبوه شرًّ لكم، بل هو خيرٌ لكم..” (النور:11).
وهو المعنى المقصود في الموازنة بين الخسائر المادية (وهي ضريبةٌ حتميةٌ من أجل التحرير)، وبين العائد الاستراتيجي الكبير، كما قال الله تعالى عن المؤمنين الذين تساموا عن الانخداع بموازين القوة المختلة لصالح غيرهم: “ولمَّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا: هذا ما وعدنا اللهُ ورسوله، وصدَق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا” (الأحزاب:22)، وهو ما نبَّه إليه الفقه السياسي القرآني، في رفع المعنويات، وانتشال النفسيات من لحظة الانكسارات الظرفية في قوله تعالى: “ولا تهِنوا، ولا تحزنوا، وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”(آل عمران: 139).
ما حدث في معركة #طوفان_الأقصى يوم 07 أكتوبر 2023م، هو فٍعلٌ جهاديٌّ متقن ومبدِعٌ، يمثِّل محطةً فارقةً، وحَدثًا استراتيجيًّا، ولحظةً استثنائيةً، وأداءً معقَّدًا، وهو خارجٌ عن التوقُّع، وعن النمطية التقليدية في الصراع، وسيكتب التاريخُ هذه الملحمة بأحرفٍ من العزِّ والافتخار، وهي تتجاوز في تداعياتها المستقبلية النتائج المادية الآنية من الإنجازات أو الانكسارات.
إنَّ الارتفاع عن الجراح، والتسامي بالنفوس عن الألم، والتحرُّر من أسْر اللحظة هو منهجٌ نبويٌّ خالص، في إطار المعالجة النفسية لقسوة حالات التصادم بين الحقِّ والباطل، وقد روى الإمامُ البخاري عن خباب بن الأرث رضي الله عنه قال: شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ، فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ، فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ”.
هذه المعركة كسَّرت كلَّ المسلَّمات وقواعد الاشتباك وموازين القوى لصالح القضية الفلسطينية، وقد هشَّمت الصورة المثالية عن إسرائيل، والتي يتم تسويقُها دائمًا بأنها متحكِّمة في العالم عبر الصُّهيونية والماسونية والموساد، وتمتلك التقنية وأجهزة الاستخبارات الخارقة، وتتمتع بالقُدرات العسكرية القوية التي لا تُهزم، وهي القلعة الحصينة التي لا تُخترق، والقوة المهيبة التي لا يتجرَّأ عليها أحد.

 ما حدث في معركة #طوفان_الأقصى يوم 07 أكتوبر 2023م، هو فٍعلٌ جهاديٌّ متقن ومبدِعٌ، يمثِّل محطةً فارقةً، وحَدثًا استراتيجيًّا، ولحظةً استثنائيةً، وأداءً معقَّدًا، وهو خارجٌ عن التوقُّع، وعن النمطية التقليدية في الصراع، وسيكتب التاريخُ هذه الملحمة بأحرفٍ من العزِّ والافتخار، وهي تتجاوز في تداعياتها المستقبلية النتائج المادية الآنية من الإنجازات أو الانكسارات.

ومن أهم ملامح القراءة الإستراتيجية لهذه المعركة: تثبيت معادلة: شرعية المقاومة في مقابل عدم شرعية الاحتلال، وهي المعادلة التي تمَّ الاشتغال على تدميرها -ولسنواتٍ طويلة- عبر مسلسل السَّلام، واتفاقيات التطبيع، وصفقات الخيانة، ومعاهدات أبراهام، وكاد أن يترسَّخ نهائيًّا -وبشكلٍ دائمٍ- الوجود الطبيعي للعدو الصهيوني في قلب الأمة، في مقابل شيطنة المقاومة وتصنيفها منظماتٍ إرهابية متطرِّفة، وقد وصلت نتائج هذه المعادلة إلى وضعٍ خطيرٍ وانهيارٍ كبيرٍ في المفاهيم، لولا هذه المعركة المذهلة والصَّادمة، والتي أعادت بوصلة القضية لدى الرأي العامّ الرسمي والشعبي العربي والعالمي، ويتجلَّى ذلك في افتضاح الممارسات الصهيونية، وانكشاف عورة الانحياز الغربي، وانفجار الخزي والعار للتطبيع العربي.
وهذا ما يُحسب في الميزان الاستراتيجي لصالح إرادة المقاومة، وأنها فرضت واقعًا جديدًا، رغم حجم الإنفاق والتخطيط الشيطاني ضدَّها، من أجل تعطيل مشروع تحرير فلسطين، كلِّ فلسطين، من البحر إلى النهر، وهو الواقع الذي كُتبت آياتُه الخالدة عبر توحيد السَّاحات والجبهات والمستويات بالدَّم، وهو ما أبدعت في أدائه المقاومة داخل فلسطين وخارجها.
فقد كانت هناك إرادةٌ عربيةٌ وغربيةٌ لعزل غزة، وجعلها كيانًا شاذًّا ضمن المشروع الوطني الفلسطيني، وفرضه كواقعٍ معزولٍ، وسجنٍ كبيرٍ، لا يرتقي سقف طموحاته إلا إلى الاحتياجات الإنسانية، ولا يمكن استعادة وضعه الطبيعي إلا بنزع سلاح المقاومة، والقضاء عليها نهائيًّا، وهذا ما اشتغلت المقاومة على كسره، وفرض فاعلية كلِّ ساحات الوطن، وتجسيد وحدتها على مشروع التحرير، والربط المصيري بين غزة والقدس والضفَّة وأرض 48م والشتات.
لقد انتقلت المقاومة من الدفاع كردِّ فعلٍ ضدَّ ممارسات الاحتلال على غزة، إلى الهجوم على العدو الصهيوني في قلب كبريائه، فكانت معركة ماي 2021م تحمل شعار: “سيف القدس”، وكانت المعركة الحالية 2023م تحمل شعار: “طوفان الأقصى”، وهي عناوينٌ عقائديةٌ حسَّاسة جدًّا، تضع القضية ضمن إطارها الطبيعي: العربي الإسلامي، على اعتبار الخصوصية التاريخية والدينية لمدينة القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك في الضمير الجمعي للمسلمين جميعًا في العالم، وهو ما يغفل عن دلالاته العقلُ الصهيوني في مركزية الصِّراع، ودخوله في معادلة المواجهة، ما قلب الطاولة على الجهود الصهيونية والغربية في تدجين الشعب الفلسطيني، وتحريف الصِّراع عن جوهره الأصلي لعقودٍ من الزمن، فلم تنجح في الاستفراد بالقدس الشريف وتهويد المسجد الأقصى المبارك، ولم تنجح في تدمير عقيدة الفلسطيني ونظرته إلى حقيقة الصراع، إذْ أنّ سيكولوجية المسلم عمومًا والفلسطيني خصوصًا تختلف تمامًا عن عقيدة الصُّهيوني من ناحية القوَّة والصَّلابة والثبات، ولهذا العامل دخلٌ كبيرٌ في مستقبل إسرائيل، إذ لا مستقبل لها تحت الشمس.
إنَّ لحظة المفاجأة بهذه الضَّربة المدوية من طرف كتائب القسام جاءت في سياق اللحظةٍ الحرجة جدًّا التي يمرُّ بها هذا الكيان من الناحية الإستراتيجية، فهو يعيش صراعًا داخليًّا واستقطابًا حادًّا، على خلفية تصادم الهوية الدينية اليهودية مع الطبيعة الديمقراطية الغربية، ووصول التيار الديني القومي المتطرِّف إلى الحكم على حساب التيار العلماني، وسيطرته على المفاصل الحساسة في المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية، مما أدخله في حالةِ توترٍ وعدمِ استقرارٍ سياسي، لعدم حيازةِ أيِّ تيارٍ على الأغلبية المريحة، مما هدَّد بالحرب الأهلية، وقد طفا ذلك إلى السطح عبر الاحتجاجات الواسعة على خلفية ما سُمِّي “الإصلاحات القضائية”، فهو في حالة انحدارٍ وليس في حالة صعودٍ في القوة، بالإضافة إلى تراجع المكانة الجيوإستراتيجية لإسرائيل لعدة أسباب، منها: أنَّ المنظومة الغربية التي تقف وراء قيام إسرائيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كقاعدةٍ عسكريةٍ متقدمةٍ في قلب العالم العربي والإسلامي، تعيش حالة تراجعٍ في الهيمنة، إذ يتَّجه العالم إلى انحسار الزمن الأمريكي أحادي القطب، بعودة روسيا والصعود القوي للصين، وإصرارهما -مع قوى إقليمية أخرى- على إعادة تشكيل النظام العالمي متعدِّد الأقطاب، وفق موازين ومفاهيم جديدة، لن تُبقِي لإسرائيل هذا الوجود التفضيلي، بل ستكون عبئًا على الجميع.
لقد جرحت المقاومةُ إسرائيلَ جُرحًا عميقًا في كبريائها، وكسَّرت هيبتها كسرًا شديدًا لم يسبق له مثيل، وهشَّمت صورتها الأسطورية بشكلٍ دراماتيكي فظيع، فانفجر الجنون الذي يسيطر على العقل الصهيوني في ردِّ فعله، وهي وحشيةٌ متوقَّعة وغير مستغربة، فهو لا يحتاج إلى تبريرٍ حتى يرتكب كلَّ هذه المجازر والفظاعات، إذْ لم يقصِّر في تاريخه بأسوأ من هذا، بسببٍ ومن غير سبب، وهذه الوحشية تجسِّد دائما النظرة الدونية الدينية للصهاينة اتجاه المسلمين جميعًا، فهم لا يفرِّقون بين الفلسطيني وغيره، وهم يدركون أنه في كل عدوانٍ تتفجَّر معاني الوحدة الإسلامية تلقائيًّا في مساندة الشعب الفلسطيني، وأن مشروع “سايكس- بيكو” 1916 لتقسيم العالم الإسلامي، لم ينجح إلى حدِّ الآن، للعلاقة العقائدية بين الإسلام والأمة، كما قال تعالى: “إنَّ هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربُّكم فاعبدون” (الأنبياء:22)، وهي الحقيقة الواقعية -التي قد تقوى أو تضعف- وفق التصوير النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم عن المؤمنين: “.. كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى”، فجاءت معركة #طوفان_الأقصى لتحقق أهدافًا إستراتيجية في ذلك، فأصبحت فلسطين عنوانًا بارزًا لوحدة الأمة، بل إنَّ مشروعها الوطني التحرري المقاوم تزداد حالة الإجماع عليه في كلِّ مرة، في مقابل تراجع خيار الحلول السِّياسية والسِّلمية واتفاقيات التطبيع والخنوع، وتولّي مرحلة الشعور بالوَهن والضعف أمام العدو الصهيوني إلى غير رجعة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!