الرأي

الكناباست وبن غبريط.. ومعركة كسر العظام

محمد بوخطة
  • 4841
  • 7
ح.م

بعد أن انتهى الإضراب وعاد التلاميذ إلى أقسامهم، توقّع العقلاء أن الجميع سيلتفت إلى التفكير في وكيفية العناية بهم وترميم العلاقة بينهم وبين أساتذتهم، وكل ما أُثير أثناء الأزمة قد زال أثره بزوالها وإذا ارتقى الفكر أكثر فلا مناص من التفكير في كيفية إعادة بناء علاقات عمل على أسس جديدة تحمي القطاع من الوقوع في هذه الأزمات مجددا.
ذلك هو المأمُول خاصة فيمن يتحمل وظائف باسم الدولة ويتكلم بلسانها، أقصد بالذات السيدة وزيرة التربية الوطنية.
عارفا بما أتحدث،غير متحدث بكل ما أعرف، وجدت نفسي مضطرا للتخلي عن بعض الأناقة فيما أكتب فأسمّيِ السيدة الوزيرة باسمها لأني بدأت أقتنع أن الوزيرة غير الوزارة وأن الوزيرة بدأت تخرج عن السياق الذي تقتضيه المسؤولية والذي يَفترضُ فيها أن تَظهر وزيرة لمن أخطأ ولمن أصاب ولمن أضرب ولمن لم يضرب فقط بصفة انتمائها إلى القطاع الذي تشرف عليه، بدا وكأن تصريحاتها مستفزة، مؤججة للفتنة ليست اعتباطية ولا تعبر عن انفعال تلقائي إنما هي سلوك مبرمج بأهداف محددة تعلمها هي ومن يشاركها إياها.
حين نزلت ضيفة على ولاية البليدة التي كانت ولا زالت بؤرة توتر وبقطع النظر عن الاستقبال الفلكلوري الذي انخرط فيه بعض المسؤولين ببعض المراهقة السياسية التي لا تنم عن كبر نفس ولا عن شعور بالمسؤولية، كنت أتمنى لو أنها اجتمعت بطرفي النزاع الإدارة والأساتذة وخاطبتهم خطاب قلب مسؤول لتُشعر الجميع بأنها حامية الحق الضائع هنا أو هناك وأنها ربَّة الأسرة التربوية بكل أعضائها المخطئ كما المصيب، باختصار لو أنها عاملتهم بضمير لتستجدي ضمائرهم وتستحضرها من أجل تناسي الخلاف وتحمّل المسؤولية، كانت ستكبر في أعيننا وتقنعنا باستحقاقها..
غير أنها نحت غير ذلك فاستدعت بدل الضمير التدبير وراحت تطلق تصريحات مستعدية من قبيل: الخصم قرار لا رجعة فيه، الزمن الذي تقرر فيه النقابة انتهى، مجانية التعليم مهددة.. مُخطِئةً الزمان والمكان مُعرِّضَة بالنقابة طبعا..
أكاد أقتنع أن الوزيرة بيَّتت دفع النقابة إلى التطرف لتبرر رغبتها في كسر عظامها وإن بعض الحَنَقِ والغيظ الذي أصابها إنما مرده إلى كونها أفلتتها ولم تصبها وأن النقابة فوتت عليها الفرصة بتوقيفها للاحتجاج، ولو أساءت الظن قليلا فلعل الإصرار على الاستفزاز بعد الأزمة أخفى رغبة كامنة في إثارتها من جديد لتدارك الفرصة وتنفيذ خطة “كسر العظام” لكن السؤال الملح الذي يطرح نفسه:

هل هذه الرغبة بنت فكر الوزيرة وحدها أم أنها تعبر عن موقف الحكومة وأين موقع الرئاسة من كل ذلك؟

إن تطوّر موقف وزير العمل من الصمت إلى التراخي ثم التناغم الكلي مع الوزيرة ـ وهو حديث عهد بالاستوزار ـ وبدرجة أقل تناغم موقف وزير العدل ـ يوحي بأن الوزارة الأولى منسجمة مع الوزيرة، هل لأنها أقنعتها بضرورة كسر عظم النقابة؟ أو لأنها كانت رغبة مشتركة بينهما بالأساس، أمر لا نعلمه.. غير أن موقف الرئاسة الذي ادعت كل الأطراف استجابتها له يوحي بأنه مختلف في تعاطيه مع الأزمة عن منطق “كسر العظام”.. ثنائية الموقف في أداء مؤسستين مهمتين في الدولة ـ لا نتمنى أن تكون كذلك ـ ربما أربكت الثقة وشوّشت فكر الساسة والمثقفين في التعاطي معها.
لا يُسعد عاقلا الوضع المربك الذي يحياه قطاع التربية غير أن العلاج لا يكون بالقفز على الحقائق وخرق القوانين وإثارة الأحقاد والنعرات أو شخصنة النزاعات..
نحن أمام أسلوبين في الأداء النقابي، نقابة التصقت بالإدارة كثيرا حتى حشرت نفسها في ضروراتها وابتعدت عن طبيعتها ففقدت بعض مصداقيتها عند منتسبيها وعجزت عن القيام بالدور المنوط بها ونقابة أخرى ابتعدت كثيرا عن دواليب الإدارة حتى جهلت أساليب عملها ولم تتفهم مصاعب أدائها ما جعل مطلبيتها تبدو أحيانا تعجيزية أمام بيروقراطية الإدارة وتشابك أداء مؤسساتها ..

فما العمل إذن؟

على الدولة أن تتحمّل مسؤوليتها في ترقية الأداء النقابي الذي أعتبره ضرورة لا مفر منها من أجل صقل أداء إدارة الدولة ودفعها نحو الأفضل بترسيم حدود التماس بين الإدارة والنقابة وتقريب البعيد منها حتى يكتسب بعض ثقافة الإدارة ويقدر عوائق أدائها، وتشجع الجميع على الانخراط في مسار معتدل يجمع حسنات الأسلوبين معا ويستبعد مساوئهما قدر الإمكان ..
عندما تصر الإدارة على اعتبار نقابة بعينها دون غيرها الشريك الوحيد الذي تتعاطى معه في الثنائيات والثلاثيات متجاهلة غيرها من الفاعلين هي بذلك تكرس اللاعدل وتدفع إلى التطرف الذي يُفَرِّخ الممارسة التعجيزية..
ما هي الخدمة التي نقدّمها للدولة عندما نستثمر في تأجيج الصراع بين النقابات ونستنسخ المزيف منها وماذا نجني من ذلك.. لقد كانت بعض النقابات التي تسمي نفسها مستقلة تغضب عندما تناضل من أجل مطالب معينة عندما توشك على التحقق تتظاهر الإدارة بأنها تتفاوض مع النقابة العريقة “إ.ع.ع.ج” لتُوهم الجميع بأن الفضل يعود إليها.. لتتحول نفس النقابات إلى ممارسة نفس الدور الذي كانت تعيبه على الاتحاد.. لا يهم من حقق المطالب عند العقلاء المهم أنها تحققت خدمة للأفراد والمجتمع غير أنها مسألة أخلاقية تخرق “الإتيكيت” في التعاطي النقابي لا نبل في ممارستها.
أخيرا أقول: على نقابة الكنابست ألا تجعل نفسها فرس السباق الوحيد وأن تتعود العمل الجماعي مع مختلف الشركاء بعيدا عن الأحكام المسبقة قطعا ستستفيد منهم ويستفيدون منها والذكي من يحسن الاستفادة من الوضع الراهن لا من يحلم بصناعة وضع جديد.
أما بخصوص خصم أيام الإضراب والذي أصبح موضوع تفاوض في حد ذاته بدل التفاوض على المطالب وبعيدا عن الجدل القانوني فإني أقترح على النقابة والوزارة أن يتفقا على ترسيمه ليصبح آليا، فالنضال له ثمن والخصم سيبعد الطفيليين العابثين عن العمل النقابي ويَحُد من توسع النقابة في استعمال الإضراب وفي نفس الوقت يفقد الوزارة إمتياز التهديد والمناورة به لتصرف التفاوض عن مساره الصحيح.

مقالات ذات صلة