الرأي

المؤرخ ناصر الدين سعيدوني.. جهود علمية فريدة

محند أرزقي فراد
  • 6621
  • 7

شرفتني “الشروق اليومي”، بدعوة لحضور تكريم المؤرخ الدكتور ناصر الدين سعيدوني، بصفتي أحد طلبته السابقين في مطلع سبعينيات القرن الماضي، فلبيت الدعوة بفرح وسرور، حيث لا يختلف اثنان في سمو مكانة الرجل في عالم التدريس والبحث الأكاديمي في مجال التاريخ (العهد العثماني).

عرفته سنة 1973 في الجامعة المركزية بالجزائر العاصمة، بصفتي طالبا في قسم التاريخ. وأعجبت به منذ البداية لتكوينه العلمي الرصين، ودماثة أخلاقه، وحسن معاملته للطلبة بطريقة ملفتة للانتباه. وأتذكر يومها أني كنت أتغيب عن بعض الدروس النظرية لكوني معلما، وكان بإمكانه أن يقصيني من الامتحان بسبب تراكم الغيابات، لكنه لم يفعل لأنه تفهَّم ظروفي الصعبة من جهة، وثمَّن إصراري على مواصلة الدراسة من جهة أخرى. 

والدكتور سعيدوني من الباحثين القلائل الذين تنطبق عليهم مقولة المؤرخ أبو القاسم سعد الله: “مشروعي ممدود، وعمري محدود”. وممّا زاد في سمو مكانته العلمية، أنه حاز على تاج التواضع في سلوكه مع الجميع، كما أنه لا يُشقّ له غبار في مجال التفاني في خدمة الطلبة، لأنه يؤمن أن الأستاذ الذي لا ينجح في جعل تلامذته أفضل منه، هو أستاذٌ فاشل. ويؤمن أيضا أن مهمة الأستاذ الجامعي لا تنحصر في تلقين العلم للطلبة فقط، بل تغوص في عالم البحث والتأليف. ومن خصاله الحميدة أنه متسامح، غير متعصب لأفكاره، مستعد لمراجعة بعض مواقفه عندما تقتضي الموضوعية ذلك، كما فعل إزاء المسالة الأمازيغية التي أدرجها  ضمن المصالحة مع تراثنا المتنوع الذي يعتبره مصدر ثراء.

لقد أثرى الدكتور ناصر الدين سعيدوني، المكتبة التاريخية الجزائرية بعدد كبير من المؤلفات، تناول فيها بصفة خاصة الجوانب المتعلقة بالاقتصاد الجزائري خلال حقبة العهد العثماني، وهو مجال عصيّ على الكثير من الباحثين لما يتطلبه من جهود فكرية ودقة في تقديم المعلومات. وقد حزّ في نفس الدكتور سعيدوني أن لا تملك الجزائر موسوعة علمية لتاريخها العريق الضارب بجذوره في أعماق الماضي السحيق. لذا عقد العزم على أن يسعى بجهوده الخاصة وحرّ ماله إلى إنجاز هذا العمل الكبير، الذي عجزت وزاراتٌ كثيرة معنية بالثقافة عن انجازه رغم توفر المال والرجال!

ولما كان يدرك فعلا أن مشروعه ممدودٌ وعمره محدود، فقد عقد العزم على تأسيس مؤسسة علمية (مؤسسة ناصر الدين سعيدوني) تكون عابرة لعمره، تواصل البحث العلمي في غيابه. ولهذه المؤسسة العلمية ثلاثة محاور:

1-مجلة محكّمة بعنوان “مقاربات”،  تعنى بالدراسات التاريخية والعمرانية. 

2-انجاز ” المدوّنة الجزائرية”، وهي موسوعة تاريخية ودائرة معارف خاصة بالعلوم الإنسانية.

3-الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، باعتبارها جسرا لاستيعاب الأبحاث العلمية الأجنبية في مجال التاريخ،  قصد إثراء المكتبة الجزائرية.

هذا ومن آراء الدكتور ناصر الدين سعيدوني، أن الثورة الجزائرية قد اكتفت بتحرير جغرافية الجزائر فقط، واستهلكت حكوماتها – بعد استرجاع الاستقلال- جلّ وقتها في بناء صرح الدولة، دون التركيز على بناء “الذات الثقافية” الضرورية للإقلاع الحضاري كما حدث في الصين مثلا. ولاحظ أيضا بألم شديد، أن الشعب الجزائري يتكلم أكثر ممّا يكتب، وهي مثلبة تعاني منها الشعوب المتخلفة، ومن آرائه الجريئة أن الخطاب الإيديولوجي الضيِّق في العالم العربي، قد جعل الخطاب المعرفي يتراجع إلى الخلف. 

كما يدعو الدكتور سعيدوني أيضا إلى الاهتمام بالثقافة الجزائرية بكل مكوّناتها خاصة في البرامج التعليمية، وإلى إعطاء الريادة للغة العربية في المجتمع، مع ضرورة الانفتاح على العالم الخارجي. وللتخلص من هذه الحالة المقلقة الصعبة، فلا بد من ثورة فكرية- علمية تشمل المنظومة التربوية والمنظومة الجامعية بالدرجة الأولى، لتدارك ما فاتنا من الوقت.

مقالات ذات صلة