الرأي

المجتمع العربي الإسلامي وإشكالية القابلية للتغيير الحضاري

محمد بوالروايح
  • 1957
  • 30
أرشيف

كل شيء في عالم الحضارة قابل للتغيير وهو ما اصطلحت على تسميته “القابلية للتغيير الحضاري” التي تعني أن لا شيء ثابت في عالم الحضارة بل كل شيء قابل للتغيير ولكن من خصائص هذا التغيير الحضاري أنه لا يحدث عفو الخاطر وإنما يكون نتيجة لجهد إنساني، فإذا انتفى الجهد الإنساني انتفى التغيير الحضاري لأن الإنسان هو قطب الرحى في هذه العملية وهي النتيجة المنطقية التي عبر عنه مالك بن نبي رحمه الله بقوله: “غير نفسك تغير التاريخ”.

قد يتفق معي كثيرون بأن المجتمع العربي الإسلامي قد فقد قدرته على التغيير الحضاري ليس عن رغبة منه ولكن لأنه أصبح مسلوب الإرادة بعد أن عمل الاستدمار عمله في تجريده من عناصر القوة الكامنة فكان العقل العربي المسلم أول ضحايا هذا الاستدمار وبسقوط العقل سقط معه كل شيء، سقط الاجتهاد الذي أصبح لا يعني في عرف الفقهاء سوى الاجتهاد في مسائل الدين وترك الاجتهاد في مسائل الدنيا وهجره الفقهاء وربما حرمه وجرمه بعضهم، وسقط الاقتصاد وتحول المجتمع العربي الإسلامي إلى مجتمع مستهلك بامتياز يقتات على الفتات ويرضى بأن يكون مجتمعا ناميا أو سائرا في طريق النمو على الـتأبيد كأنما خلق ليكون تابعا لغيره قابعا في ظله.

 تحاول النخبة العربية الإسلامية منذ عقود كسر حالة الجمود والركود التي تميز المجتمع العربي الإسلامي والدعوة إلى تظافر الجهود من أجل تغيير ما يمكن تغييره عملا بقاعدة: “ما لا يدرك كله لا يترك جله” ولكنها تصطدم بواقع مر وهي أن حالة المجتمع العربي الإسلامي حالة مزمنة وأنها تحتاج إلى عملية تغيير حضاري طويلة الأمد نتيجتها في النهاية غير مأمولة بسبب التراكمات التاريخية الكثيرة والمعقدة.

وتحاول تيارات فكرية إحداث التغيير الحضاري المنشود في المجتمع العربي الإسلامي ولكنها تغرق في التوصيف وتثقل أسماعنا بالحلول الصورية التي تقترب من الصور الشعرية والأدبية من شاكلة ما يكتبه بعض الشعراء والأدباء الذين تغلب على كتاباتهم وخطاباتهم لغة القواميس وشعرية امرؤ القيس فلا تجد فيما يكتبون شيئا ذا بال في الأساس يصلح لأن يكون منطلقا لإحداث التغيير الحضاري ولو على سبيل الاستئناس.

إن التغيير الحضاري ليس قصيدة شعرية ولا صورة أدبية، إنه عملية حضارية معقدة تستدعي جملة من المهارات واجتماع الكفاءات، وتستدعي قبل هذا إحاطة وافية بمظاهر الأزمة الحضارية التي هي وليدة انتكاسة حضارية قديمة.

إن تعطيل السنن الاجتماعية قد أسهم في تعطل عملية التغيير الحضاري في المجتمع العربي الإسلامي ومن ذلك التخلي عن الإرادة الجماعية التي هي سر قوة كل الأمم في سيرها نحو الحضارة، وهذا رغم أن في نصوصنا الإسلامية ما يحفزنا لذلك كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ . قال: لا بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل”. إن الأحادية وغياب الإرادة الجماعية هي سبب الغثائية التي أصابت المجتمع العربي الإسلامي ولا ينتظر من هذه الأحادية المفرطة في الغالب أن تكون عاملا من عوامل التغيير الحضاري خاصة إذا علمنا أن هذه الأحادية كثيرا ما ترتبط في العقلية العربية والإسلامية بالأنانية والنرجسية.

لقد استطاع الغرب إحداث التغيير الحضاري لأنه أحسن استثمار موروثه الحضاري واستطاع بعد فترة أن يوحد إرادته ويقيم كيانا سياسيا واحدا في الوقت الذي عجزنا فيه نحن عن إقامة كيان ثقافي موحد يجمع شتات الثقافة العربية الإسلامية، والسبب في ذلك ظاهر وهو أننا أصحاب فلسفة أحادية ونظرة نرجسية ولا يؤمن أكثرنا بما يسمى العمل العربي الإسلامي المشترك إلا ما كان من باب الدعاية الإعلامية والصناعة الشعرية والخطب الوعظية.

إن فلسفة التغيير الحضاري توجب علينا أن نوجد في المجتمع العربي الإسلامي هيئة معرفية تحسن قراءة واستقراء التراث الحضاري وتجتهد في تقديمه للأمة في قالب عقلي واقعي قابل للتطبيق يتحول فيه المشروع الحضاري النظري إلى بناء حضاري مادي.

إن فلسفة التغيير الحضاري تقتضي منا أن نعمل بالتوجيه القرآني: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، فتغيير الذات من شأنه أن يحرك فينا ملكة التغيير الحضاري فاجتماع الأنا الذاتي في الأنا الجمعي سيحقق التغيير الحضاري.

يجب أن نعترف بأن بيننا وبين التغيير الحضاري الحقيقي بعد المشرقين ولكن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من التفيكر في استعادة الثقة بالنفس، صحيح أن الزمان قد استدار ولكن إمكانية العودة قائمة لأن من خصائص الدورة الحضارية الديمومة وعدم التوقف.

 ينبغي أن نضع في الحسبان ونحن نتحدث عن دورة الحضارة أن هذه الدورة لا تنتظر الفاشلين ولا القابعين في دركات التخلف ينتظرون معجزة خارقة تنتشلهم من الضياع من دون أن يقدموا الأسباب أو يعدوا للتغيير الحضاري عدته، فقد قال الله سبحانه وتعالى: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”.

لا يبدو أن التغيير الحضاري في المجتمع العربي الإسلامي وشيك بالنظر إلى الواقع المعيش البئيس الذي نعيشه ولكنه مع ذلك ليس مهمة مستحيلة، فمتى توفرت الإرادة استعدنا مكاننا في سلم الحضارة.

هناك من يربط عجزه عن التغيير الحضاري بالإسلام وهذه مغالطة كبرى، فمتى كان الإسلام عائقا عن التقدم ومانعا للتطور وقد عبر الشاعر العراقي الراحل “معروف الرصافي” عن هذا تعبيرا بليغا بقوله:

يقولون في الإسلام ظلما بأنه  يصد ذويه عن طريق التقدم

فلو كان ذا حقا فقد تقدمت    أوائله في عصرها المتقدم

مقالات ذات صلة