-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المرض.. بين العقوبة والابتلاء

سلطان بركاني
  • 12504
  • 0
المرض.. بين العقوبة والابتلاء

ما من مخلوق في هذا الكون الفسيح إلا وقد خلق بقدر وحكمة، وما من حدث أو طارئ يطرأ إلا ووراءه حكمة تتضمّن خيرا للعباد في العاجل أو الآجل؛ والمتدبّر لما يَبتلي به الله -جلّ وعلا- عباده من الأمراض والأسقام، والعاهات والآلام، يدرك أنّ وراءها حكما جمّة؛ فهو –سبحانه- يسلّط على عباده العوارض والأمراض ليتدبّروا عظمته، ويتفكّروا في ضعفهم أمام قدرته جلّ شأنه، ويتأمّلوا حقيقة هذه الحياة الدّنيا المليئة بالمنغّصات والأمراض والعاهات، ويتطلّعوا إلى حياة أخرى تخلو من هذه المكدّرات، ويعملوا لدار لا مرض فيها ولا ألم، ولا وجع فيها ولا سقم، ويتدبّروا مع هذا وذاك عظمة الموت الذي حيّر العلماء وأعجز الأطبّاء.

المرض مهما كان عصيبا فإنّه جنديّ من جنود الله جلّ وعلا، لا يسلّطه على الكافرين والعصاة المذنبين والعتاة الظّالمين فقط، فليس كلّ من مرض بالسّرطان أو الرّبو أو السكّري هو بالضرورة من العصاة والعتاة، وليس كلّ من أصيب بمرض، يكون المرض عقوبة له من الله جلّ وعلا؛ فقد يبتلي المولى سبحانه عبده المؤمن الطّائع ليرفع درجته ويُعلي مقامه، حتى يِرِد القيامة ويجد نفسه في زمرة الصّالحين القانتين.

كما قد يسلّط المولى سبحانه المرض على عبده المؤمن الغافل أو العاصي ليذكّره بالموت وبقدرته جلّ وعلا عليه، ليتوب ويؤوب ويصلح قبل أن يأتيه الموت ويلقى الله على غفلته وسوء فعاله.. ربّما يكون ميزان العبد المؤمن مثقلا بالأوزار والسيّئات، فيبتليه الله بمرض من الأمراض لشهور وربّما سنوات، فيخرج منه معافًى تائبا منيبا، وربّما يخرج منه إلى الآخرة وليس عليه ذنب.. يقول أحد الدّعاة: سمعت عن امرأة أسرفت في الغفلة والصّدود والمعاصي والذّنوب، كل من حولها يؤكّدون أنّها لا يمكن أن تتوب أبدا، لشدة تفلّتها وانحرافها، واعتزازها بجمالها؛ كانت تشعر بالنّشوة والعزّة حينما تتكشّف أمام الأجانب، وكانت ترفض أشدّ الرفض أن تلبس الحجاب، بل كانت ترفض أشدّ الرفض أن تلبس لباسا محتشما.. مرضت مرضاً شديداً، يئست معه من الحياة، فأذعنت ولانت وقرّرت أن تلبس الحجاب، بل بلغ بها الأمر أنّها قالت: لو طلب منّي أن أضع على رأسي وعلى ظهري، ما يوضع على الدابة على أن يشفيني الله عز وجل لفعلت.. لبست الحجاب بعد أن عرفت ضعفها أمام قدرة الله، وتابت إلى الله وصلح حالها، ومنّ الله عليها بالشّفاء.

كما قد يسلّط الحنّان المنّان –سبحانه- المرض على عبد من عباده، ملأت الدّنيا قلبه وأصبحت غاية همّه ومنتهى أمانيه؛ يصبح ويمسي وينام ويصحو ولا همّ له إلا حظوظ الدّنيا الزّائلة؛ يبتليه الحنّان المنّان سبحانه بمرض من الأمراض، ليخرج الدّنيا من قلبه قبل أن تهلكه؛ يمرض فيدرك أنّ هذه الدّنيا إلى زوال، ويتذكّر أنّه في أيّ لحظة يمكن أن يرحل عن هذه الدّنيا ويتركها خلفه ولا يأخذ منها دينارا ولا درهما، يذكّره المرض بحقيقة الحياة الدّنيا ويذكّره بالموت وبالدّار الآخرة، فيسأل نفسه وهو على فراش المرض: ماذا لو متّ بسبب هذا المرض ولقيت الله جلّ وعلا؟ ما الذي سآخذه معي من هذه الدّنيا؟ وما الذي سأجده عند الله؟ تُرى لو نزل إليّ ملك الموت وأنا على هذا الفراش، أيّ ملائكة سيحضرون معه؟ وكيف سيخاطب روحي؟.

كما يسلّط الله -جلّ وعلا- الأمراض على الغافلين المعرضين والعتاة الظّالمين، الذين تكبّروا في هذه الأرض وظلموا وأكلوا الحرام وأخذوا أموال النّاس وظنّوا أنّهم مخلّدون في الأرض ونسوا أنّ لهذا الكون خالقا حرّم الظّلم على نفسه وحرّمه على عباده، وتعهّد سبحانه بإذلال الظّالم والانتقام منه في الدّنيا قبل الآخرة؛ يملي الله لهؤلاء ويمهلهم حتى إذا حان وقت القصاص سلّط عليهم الأمراض والأسقام وهم أشدّ ما يكونون نشوة بالدّنيا، يسلّط عليهم أمراضا يتمنّون معها الموت صباح مساء ولا يجدونه، حتى يشفي الله منهم غلين المظلومين، ثمّ يأخذهم إليه حيث القصاص العادل والعذاب الأليم، تلحقهم دعوات ولعنات المظلومين لتزيدهم عذابا على العذاب ووبالا على الوبال.

لأجل ما سبق، فإنّه لا ينبغي للعبد المؤمن أن يتسرّع في الحكم على من ابتلي بمرض من الأمراض الخبيثة المستعصية، ويجزم بأنّه عقوبة من الله جلّ وعلا، فالأصل أنّ الله يسلّط المرض على المسلم رحمة به، إلا إن كان المبتلى وبشهادة مَن حوله من النّاس معروفا بظلمه وعدوانه على النّاس وعلى أموالهم وأعراضهم، ومعروفا بتكبّره على النّاصحين وإصراره على حاله وسوء فعاله.

كما على العبد المؤمن الذي ابتلي بمرض من الأمراض أن يراجع نفسه ويتأمّل حاله وينظر في واقعه، فلعلّ الله ابتلاه بسبب تقصيره في حقّه سبحانه، وبسبب غفلته عن الدّار الآخرة، وبسبب تعلّق قلبه بالدّنيا، وربّما ابتلاه الله بسبب مظالم للنّاس عنده؛ بسبب دين يماطل في سداده أو بسبب أرض لقريبه أو جاره أخذها بغير حقّ، وربّما سلّط الله عليه المرض بسبب دعوة رفعها مسلم ضعيف ظلمه واستطال عليه بماله وحسبه ومعارفه، وربّما يكون هذا المظلوم زوجة أو والدا أو والدة أو ابنا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!