-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“المنفيّ حيّا وميتا”

“المنفيّ حيّا وميتا”

هذا الوصف اللافت للأبصار والبصائر أطلقه الشاعر المغربي عبد اللطيف ابن يحيى (1) على رجل كان ملء الأسماع والأبصار في العالم كله، وتصدرت صوره صفحات المجلات والجرائد، لما قام به من أعمال عديدة، وما حققه من انتصارات مجيدة بوسائل بسيطة وإمكانات قليلة، وتلك هي العبقرية التي يجب “أن لا تحدّد على نسبة الأعمال التي يقوم بها الإنسان من حيث الأهمية؛ بل على نسبة الأعمال من حيث الوسائل التي يملكها عند العمل(2)”.

إن هذا الرجل “المنفي – من وطنه – حيّا وميتا” ما يزال اسمه يتردد على ألسنة الأحرار وأقلامهم في جميع الأمصار، لأن ما قام به كان دفاعا عن كرامة الإنسان، وحرمة الأوطان، قبل أن يكون جهادا في سبيل الرحمان وأفضل الأديان، ولكنه في وطنه تسدل عليه ستائر النسيان ممن سمّاهم الباحث المغربي الأستاذ علي الإدريسي “أباطرة نشر ثقافة النسيان(3)“، وما هم إلا هذا السرطان الخبيث الذي سمّاه الأستاذ الإدريسي “اللّوبي الفرنسي في المغرب(4)“، وسمّى الدكتور أحمد ابن نعمان نظيره في الجزائر “حزب البعث الفرنسي في الجزائر”، وهما ونظيرهما في تونس يجسدون تجسيدا عمليا ما سمّاه المفكر الجزائري مالك ابن نبي “القابلية للاستعمار”، وما سماه الإمام محمد البشير الإبراهيمي “القابلية للاحتقار”، إذ بالرغم من مرور خمسين سنة ونيف على الطرد الشكلي لفرنسا من بلدان المغرب العربي فإنهم مازالوا كما كان آباؤهم “خدّاما لفرنسا”، يخربون أوطانهم تقرّبا إليها (*)، واستجداء لعطفها، وإنهم ليورثون أبناءهم هذه القابلية للاستعمار وللاحتقار، بإرسال نسائهم إلى فرنسا ليضعن أحمالهن هناك، ليتشرفوا بحمل الجنسية الفرنسية.

إن هذا الشخص “المنفي – من وطنه – حيّا وميتا” هو “أمير المجاهدين المغاربة” محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي تمر على وفاته خمسون سنة، حيث توفّاه الله – عز وجل – في السادس من شهر فبراير من سنة 1963 بمدينة القاهرة، ودفن بمقبرة الشهداء، وندعو الله -البر الكريم – أن يكرم نزله، وأن ينزل عليه شآبيب الرحمة.

إن هذا الأمير لم يرث الإمارة عن أسلافه، ولم تهد إليه من أحد؛ ولكنه نالها اقتدارا في ميادين الوغى، وساحات القتال حيث تزيغ الأبصار، وتطيش العقول، وتطير النفوس شعاعا، وتبلغ القلوب الحناجر.

لم تكن إمارة محمد بن عبد الكريم الخطابي قطرا ممردا، وفراشا وثيرا، ولباسا ناعما، وحضنا دافئا، وترفا شيطانيا، بل ظل يلبس قميصا من الثوب العادي، وجلبابا صوفيا، وعمامة بسيطة، ونعلا عاديا، وما كان طعامه إلا خبز الشعير، وزيت الزيتون، ولبن الماعز أو البقر (5).

وما كانت زوجة كاسية عارية، مبذرة كأغلب نساء الملوك والأمراء والرؤساء والوزراء، بل كانت عفيفة، طاهرة، محتشمة، لا خضوعا بالقول، ولا تبرج الجاهلية…كانت تحمل همّ وطنها، وتقدر مسؤولية زوجها، وتقوم على رعاية أولادها…

لقد جاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي جهاد الشرف والمجد الحقيقي، ولم يلق المعاذير بقلة الرجال وانعدام الوسائل حيث كانت “نسبة قوة جيشه – إلى قوة الجيش الإسباني- هي 1 إلى 40 في العدد، وأقل من ذلك في العتاد ((6)“، وهذا قبل أن تنضم فرنسا إلى إسبانيا ضد هذا المجاهد النبيل، الذي لم تستحيِ إسبانيا “المتحضرة” من استعمال الغازات السامة ضده بشهادة رئيس وزراء إسبانيا بريمو دي ريفيرا، والعقيد فرانسيشكو فرانكو (7).. فهل في ذلك رجولة، أو بطولة؟ وهل هذا مما يفتخر ويتمجد به؟ وليس هذا مقصورا على إسبانيا فهي فيه تلميذة لفرنسا وغيرها من الغربيين، الذي تبلغ الوقاحة بهم إلى درجة إرسال رسائل إلى الأمير الخطابي “تطلب منه تقديم الاعتذار لقتله الإسبان والفرنسيين(8)“.

لقد بلغ هذا الأمير المجاهد قمة المجد عندما أذلّ الإسبان إذلالا لا نظير له بانتصاره عليهم في معركة “أنوال” بقيادة الجنرال الإسباني فيرنانديس سيلفيستر، التي جرت في 21 جويلية 1921، وكان هذا الجنرال المغرور من ضمن القتلى، كما كان الجنرال نافارو من أسرى المجاهدين..

كان وقع هزيمة الإسبان في “أنوال” وفي “الشاون” على الغربيين صاعقا، وأصاب فرنسا “الكلَبُ”، فحشرت قواتها وأسلحتها لمواجهة الأمير محمد بن عبد الكريم، ولمعرفة ما حشرته فرنسا من قوات نستمع إلى شهادة وزير خارجيتها أنطوان پيناي في خطاب له أمام البرلمان الفرنسي في أثناء أزمة خلع السلطان محمد الخامس حيث قال: “لقد كلفتنا حرب الريف سنة 1926 استنفار 350.000 جندي، بينما لم يتوفر لعبد الكريم سوى 20000 (عشرين ألف) رجل مسلح، وقد كان لدينا على خط النار 32 فرقة عسكرية، و 44 سربا، على رأسها 60 جنرالا بقيادة المارسال پيتان، مع العلم أن هذا الجيش هو الذي خرج منتصرا من الحرب العظى 1914 – 1918، إضافة إلى دعمه من قبل أربعة أخماس من السكان المغاربة الذين قدموا 400.000 جندي إضافي (9)“، ولهذا قيل عن هذا المجاهد “رجل أخذ مكانه في التاريخ وأخجل جميع عظماء الرجال”.

قبضت فرنسا على هذا الأمير المجاهد في جوان 1926…ونفته إلى جزيرة لا رنيون في المحيط الهندي حيث مكث بها إحدى وعشرين سنة، وقد حاولت فرنسا أن تستميله إليها وتحتويه، حثيث طلب حاكم الجزيرة من الأمير أن يأذن لأولاده في الانخراط في الجيش الفرنسي، فكان رده مفحما “إن أبنائي لا يقاتلون ولا يعطون دمهم إلا على بلدهم المغرب ودينهم الإسلام ((10)” وتبلغ نذالة الفرنسيين قمتها عندما رغب الأمير في أن ينقل إلى الجزائر أو تونس، فكان ردهم: “إن ما فعله ابن عبد الكريم مع جارتنا إسبانيا لا يمكن محوه أبد الدهر (11)“.

في سنة 1947 قررت فرنسا أن تنقل الأمير من منفاه في جزيرة لا رينيون إلى فرنسا، “للضغط وتهديد محمد الخامس (12)” الذي انحاز إلى قومه، وأيد الحركة الوطنية الغربية، ولكن بعض المناضلين انتهزوا فرصة مرور الباخرة المقلة للزمير بقناة السويس وأنزلوه منها، ومنحت له الحكومة المصرية اللجوء السياسي، وهناك في القاهرة استأنف الأمير نشاطه السياسي مع مجموعة من المناضلين من أبناء المغرب العربي، حيث أسسوا ما عرف باسم “مكتب المغرب العربي” برئاسة الأمير، الذي كان من أهدافه “تشكيل جمهورية ضخمة تكون أركانها جميع بلاد إفريقيا الشمالية (13)“.

لم يعد الأمير الخطابي إلى المغرب، لأنه لم يعتبره مستقلا استقلالا حقيقيا، ولأنه كان يود أن يكون هذا الاستقلال شاملا لأقطار المغرب العربي.. ولم ينس “المخازنية” في المغرب، وخدام فرنسا فيه من المدنيين والعسكريين، ومن سماهم الأستاذ علي الإدريسي “مناضلي إكس ليبان”، لم ينسوا للأمير الخطابي إعلانه الجمهورية في منطقة الريف، حيث اعتبروا ذلك تهديدا للملكية، ونزوعا منه إلى السلطنة، وهو ما نفاه في عدة مناسبات…وصدق الشاعر في قوله الذي ينطق على الأمر الخطابي وعلى خصومه وأوليائهم:

السبع سبع ولو كلّت مخالبه والكلب كلب ولو بين السباع ربِّي

.

هوامش:

1) علي الإدريسي: عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر. ص 111

2) شكيب أرسلان: حاضر العالم الإسلامي. ج1. مجلد2. ص 184. ط 1973

3 4) علي الإدريسي: المرجع نفسه ص 109 و ص 240

*) أطلقت مجلة مغربية تسمى “نيشان” في عددها 101 بتاريخ 12 18 ماي 2007 على المجرم الجنرال ليوتي ـ أول حاكم فرنسي للمغرب ـ وصف “جلالة ليوتي” مع نشر صورته على غلافها

5) محمد بن عمر العزوزي: محمد بن عبد الكريم، نادرة القرن العشرين. ص 45. ومحمد العزوزي كان أحد موزعي جريدة “البصائر” الجمعية العلماء في المغرب الأقصى.

6) حاضر العالم الإسلامي ـ ج 1 مجلد2. ص 185.

7 –8) محمد العزوزي ـ مرجع سابق ص 166 وص 250

9) علي الإدريسي. ص 65 66، وهو ينقل عن مذكرات رئيس وزراء فرنسا إدغار فور

10- 11) محمد العزوزي…ص 253 و 252

12) عبد الرحمان بلعقون: الكفاح القومي والسياسي…ط. الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. ج 3. ص 58

13) محمد مالكي: الحركات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي. ص 276

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
6
  • merghenis

    1/ لمن يريد أكثر تفاصيل ، مقال في جزئين:
    L’Emir Abd el-Krim el-Khattabi : figure musulmane de la résistance à la colonisation - Youssef Girard
    2/ جزيرة لا رنيون - تبعد عن مدغشقر بـ 700 كم شرقا.
    3/ يوجد بعض الأخطاء المطبعية :
    •مرور الباخرة المقلة للزمير بقناة السويس - ( الأمير)
    •في قوله الذي ينطق على الأمر الخطابي - (ينطبق ؟) - (الأمير)
    •عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر -( المعاصر)
    4/ يوجد مشكلة : محمد بن عبد الكريم الخطابي (الابن) و عبد الكريم الخطابي(الأب)

  • sabdelhdi02

    رحما الله البطل الشهيد عبد الكريم الخطابي
    أنه بحق خير خلف لخير سلف وهو بحق دليلا على أن الأمة الإسلامية لا تخلوا من أبنائها المخلصين لربهم ودينهم وأمتهم المجيدة

  • محمد

    في الأبيار هناك شارع كان يسمى بشارع الماريشال ليوتي أو عفوا المجرم ليوتي، ثم سمي بعد الإستقلال باسم الشهيد قدور جلول، هذا الماريشال ليوتي أحد كبار مجرمي الحرب الفرنسيين كان أول حاكم للمغرب في فترة الحماية ، لما مات سنة 1934 في فرنسا أخذه سلطان المغرب ودفنه بالرباط وبنى له ضريحا، يا حسرة على العباد، والمجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي في نظر بعض من المغاربة كان رجلا إنفصاليا بحكم تأسيسه لإمارة الريف وجهاده ضد الإسبان والفرنسويين، عجبا حين يصبح المجرم بطلا والبطل مجرما.

  • merghenis

    1/تكريما لعبد الكريم الخطابي، الشخصية المغربية المقاومة للإستعمار ، سمي شارع كبير بالعاصمة باسمه و هو نهج عبد الكريم الخطابي.
    يبدأ من ساحة أودان (Audin) و ينتهي عند البريد المكزي (Grande Poste) .قديما كان اسم هذا الشارع rue Charles Péguy
    2/ الموضوع تاريخي ، أذاعت فضائية ARTE فيلم بعنوان عبد الكريم ، معركة الريف في 21/09/2011 - و الفيديو موجود على الشبكة.

  • مصطفى نونو

    الامير محمدبن عبد الكريم الخطابي ناضل من اجل المغرب و منطقة الريف بالخصوص و للعلم فهي موطن البربر الامازيغ و يتمسكون بثقافتهم الامازيغية و بهويتهم الاصيلة . لا ادري ان كان بامكان الكاتب التعاطف معهم على الرغم من انه يدعو و يلح على عروبة المغرب العربي كما ذكره في مقاله . اعتقد ان الاذى الذي لقيه الامير من اخوانه العرب كان مؤلما ايضا لانهم لم يعترفوا بالهوية الامازيغية لكل سكان افريقيا الشمالية .

  • بوبكر بن الحاج علي

    الظاهر أنه لم يبقى لنا سوى بكاء الأطلال، ننوح فيه على واقعنا المر، و نخجل من أنفسنا أمام هؤلاء العظام