الرأي

النخبة المثقفة في الجزائر.. الحاضر الغائب

محمد بوالروايح
  • 5944
  • 8

تعد كتابات باريتو عن “العقل والمجتمع” وموسكا عن “الطبقة الحاكمة” من أكثر الكتب شهرة في تناول موضوع النخبة، فباريتو ينظر إلى النخبة على أنها نتاج الانتخاب الفكري والسياسي والاجتماعي، أو أنها بعبارة أخرى نتاج اجتماع الفعل العقلي والفعل الاجتماعي، أما موسكا فينظر إلى النخبة على أنها تعني في المقام الأول النخبة الحاكمة التي تدور في فلكها كل النخب، التي لا يمكنها تجاوز النخبة الحاكمة أو الانفلات من قبضتها لكونها صاحبة السلطة، وإليها يعود تدبير وتسيير الشؤون السياسية والفكرية والاجتماعية وغيرها.

ما يميِّز كتابات “باريتو” و”موسكا” عن النخبة، هو النظر إليها على أنها ثمرة صراع مجتمعي قديم بين الطبقات الحاكمة والطبقات المحكومة أسفر في العصر الحديث عن توافق نسبي بين هذه الطبقات في ضوء ما جاءت به مواثيق المجتمع المتمدِّن الذي جعل الحوار بديلا عن الصراع الذي ساهم مدة طويلة في تفتيت المجتمعات الإنسانية والإيقاع بين السياسي والديني، والسياسي والثقافي وهلم جرا. تسير المدارس السياسية والاجتماعية المعاصرة في اتجاه تغليب ثقافة الحوار بين النخب المختلفة، وتقسيم الأدوار بينها في إطار التعاون وبعيدا عن ثقافة الحاكم والمحكوم، لأن الحاكمية الحقيقية هي حاكمية المجتمع في إطار القيم الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحكمه والتي تمثل قدرا مشتركا بين الجميع.

النخبة المثقفة في الجزائر هي الحاضر الغائب، لأن هذه النخبة موجودة، ولكن وجودها في الغالب كعدمه، نخبة جلها أو بعضها على الأقل تحسن إدارة “الإضرابات”، ولكنها لا تحسن إدارة الأفكار التي تميزها من غيرها من النخب.

إن حديثي عن النخبة المثقفة في الجزائر يسير في هذا الاتجاه التوافقي النسبي بينها وبين النخبة السياسية، وهو الاتجاه الذي لا أراه أمرا مستحيلا، بل أمرا ممكنا بشرط أن نعمل جميعا على رأب الصدع، وهدم “جدار برلين” الوهمي، الذي أقامه بعض “النخبويين”، وبعض “السياسويين”، وأعانه عليهم المرجفون، والمستثمرون في الخلافات، والداعون على أبواب جهنم من مرتزقة الأقلام ومحبي الشغب وأعداء الشعب. 

إن التعريف المتداول لمفهوم النخبة كما ورد في الموسوعة العربية: “أنها جماعة من الناس أو فئة قليلة منهم تحظى بمكانة اجتماعية عالية الشأن وتؤثر في الشرائح الأخرى، وتتمتع بسمات خاصة كالقدرات الفكرية والأدبية، أو الوضع الإداري المتميز والعالي، مما يجعلها ذات هيبة عالية ونفوذ واسع الانتشار، وغالبا ما تتشابه في الاتجاهات والقيم ومهارات القوة والاتصالات الشخصية والأسرية”. لا شك أننا في الجزائر نمتلك نخبة مثقفة من هذا الطراز، تمتلك كل القدرات الفكرية والأدبية، نخبة تنتشر في الداخل والخارج، وتتوزع في كل المجالات والاختصاصات، ولكنها تفتقد إلى الفعلية والفاعلية مما يجعلها عاجزة عن لم شملها، وإسماع صوتها وفرض وجودها في المجتمع، وهي الظاهرة السلبية التي يفسرها بعض علماء الاجتماع السياسي على أنها نتيجة حتمية للإقصاء القسري الذي تمارسه النخبة السياسية، في حين يفسر بالأحرى في اعتقادي على أنه نتيجة حتمية للانسحاب الطوعي للنخبة المثقفة من المشهد الثقافي والمجتمعي، وعدم امتلاكها لإرادة التغيير وفق سنن التغيير الاجتماعي والفكري التي تكرس ثقافة الوئام، وتنآى عن “ثقافة” الصدام أو الفوضى الخلاقة التي ألِفها كثيرٌ من الذين يدعون وصلا بالنخبة والأفكار النخبوية ظنا منهم أن منطق المغالبة هو وحده الجدير بحسم معركة التغيير الاجتماعي، وهو ما دفع هؤلاء بعد فشلهم في هذه المعركة الموهومة إلى الانزواء بعيدا عن المجتمع، وانتظار معجزة خارقة لإنقاذه مما هو فيه من أزمات اجتماعية واقتصادية خانقة. 

إن النخبة المثقفة في الجزائر هي الحاضر الغائب، لأن هذه النخبة موجودة، ولكن وجودها في الغالب كعدمه، نخبة جلها أو بعضها على الأقل تحسن إدارة “الإضرابات”، ولكنها لا تحسن إدارة الأفكار التي تميزها من غيرها من النخب، فإدارة الأفكار بطريقة عقلانية يمكنها أن تغير المعادلة الاجتماعية وحتى السياسية من خلال حرص النخبة المثقفة على أداء وظيفتها التربوية والتنويرية، ونشر ثقافة العرفان بدلا من نشر ثقافة العصيان التي يتحول المجتمع بموجبها إلى ساحة مفتوحة للمواجهات الاستعراضية والعنتريات التي تفضي لا محالة إلى انسداد مجتمعي وسياسي يصعب التحكم فيه.

ولا أعني بذلك أن تقبل النخبة المثقفة بالأمر الواقع، أو تتنازل عن حقوقها الاجتماعية ومكانتها الثقافية والعلمية، ولكن أعني أن تسلك هذه النخبة منهجا عقلانيا يتوافق مع طبيعتها النخبوية ووظيفتها الثقافية والفكرية بعيدا عن مسالك العوام التي تورث المجتمع سيلا من الطوام، قد تتوارثها الأجيال لتشكل عائقا حقيقيا للمجتمع عن تحقيق النهضة الشاملة.

إن النخبة في الجزائر هي الحاضر الغائب، لأننا لا نجد لهذه النخبة موقفا ولا نسمع لها رِكزا إلا في زمن الأزمات وفي صورة المستنقذ لا المنقذ، والباحث عن الخلاص لا المخلِّص، لأنها ربطت وجودها بمطالب مادية بحتة، فضاعت هيبة الوجود أمام ثقافة “هل من مزيد” من النقود، وتحولت النخبة إلى جماعة نقابية كبيرة لا تهمها إلا الحسابات والعلاوات.

أريد من النخبة المثقفة في الجزائر أن تقتدي بمثيلاتها في الدول الأخرى، أن تقتدي بالنخبة الماليزية على سبيل المثال التي قبلت بعيش التقشف، وأعلنت حربا على التخلف واستطاعت بعد ذلك أن ترفع ماليزيا إلى مصاف الدول المتقدمة بعد أن ظلت سنوات تعاني العزلة الإقليمية والدولية، وقد يقول قائل: وهل وفرت النخبة السياسية في الجزائر للنخبة المثقفة ما وفرته نظيرتها في ماليزيا؟ وأجيب على ذلك بأن هذه المسألة المطلبية يمكن حلها بالحوار الهادئ وليس بالتصعيد الممنهج. 

إن النخبة المثقفة في الجزائر هي الحاضر الغائب، لأنها آثرت أسلوب رجع الصدى عن أسلوب صناعة الفعل الثقافي في زمن العولمة الثقافية، إن بعض النخب قد رفعت الحرج عن السواد النخبوي بتوقيعها على بيان النخب الذي قرأته بتمعُّن فوجدت فيه كثيرا مما يثلج الصدر من جهة، وقليلا مما يستدعي إعادة النظر بالانتقال من ثقافة التنظير إلى ثقافة التفعيل، فخطاب النخبة عندنا لا يزال يحلق في الآفاق الافتراضية ولم ينزل بعد إلى الواقع، ومما جاء في هذا الإعلان ويحتاج إلى بيان: “دعوة النخب الوطنية لتحمل مسئولياتها تجاه كبرى القضايا الوطنية والمؤسساتية، عن طريق مساهماتها الأكاديمية المتميزة والانخراط ضمن مسعى الفعل الديمقراطي التشاركي، تحقيقا للمشروع الوطني المأمول، كما ندعو السلطة إلى الاعتماد والأخذ بأفكار النخبة وإنجازاتها العلمية حسب التخصصات في عمليات التنمية”.

جميلٌ أن تؤكد النخب الوطنية التزامها بتحمل مسؤولياتها إزاء القضايا الوطنية والمؤسساتية الكبرى، وجميل أيضا أن تنخرط هذه النخب في المسعى الديمقراطي التشاركي، وجميل أيضا أن تمد النخبة المثقفة يدها إلى السلطة، وأن تمد السلطة يدها إلى النخبة من أجل تحقيق التنمية ومواجهة الأزمة، ولكن ما هي آليات تحقيق ذلك في الواقع؟ وما هي الحلول والبدائل الفعلية التي وضعت لتحقيق كل هذه المشاريع؟ ومما جاء في هذا الإعلان أيضا: “التأكيد على أن الجزائر اليوم في أمسِّ الحاجة إلى مشروع وطني حقيقي، بعيدا عن التهريج والمزايدات السياسية والشطحات الحزبية الضيقة، بفتح المجال أمام كل التيارات من العقلاء والحكماء والعلماء من أبناء الوطن، لأجل نقاش وطني حضاري حول أسس التغيير بطريقة سلمية وسلسة”، إن المشروع الوطني الحقيقي يحتاج إلى نخب واعية بقيمه وقيمته، وليس إلى نخب يستهويها الزخرف البلاغي وتقعد بعد ذلك عن تجسيده في الواقع ولو بأضعف الإيمان.

مقالات ذات صلة