الرأي

النقاش حول إصلاح المنظومة التربوية.. عودٌ على بدء

محمد بوالروايح
  • 1192
  • 4

مع كل دخول مدرسي، يتجدد النقاش حول إصلاح المنظومة التربوية، ونترقب في كل مرة أن يسفر هذا النقاش عن نتيجة عملية ترتقي بمنظومتنا التربوية إلى مصاف المنظومات التربوية العربية على أقل تقدير، ولكننا نصدَم في كل مرة ببقاء دار لقمان على حالها بسبب بعض المخططات غير المجدية التي تتم على عجل ويشوبها كثير من الزلل.

لقد عرفت المنظومة التربوية في الجزائر منذ الاستقلال إصلاحاتٍ كثيرة أهمها إصلاحات بن زاغو التي نعرف منها وننكر والتي كانت لها نجاحات محدودة وإخفاقات متعددة، ثم ساء وضع المنظومة التربوية في مرحلة ما بعد إصلاحات بن زاغو إذ حاول الوافدون الجدد على قطاع التربية تطبيق بقيّة إصلاحات بن زاغو، وشهدنا قطيعة غير مسبوقة بين المنظومة التربوية وبين المنظومة القيمية، إذ تحولت الصلاة والبسملة في عرف هؤلاء الوافدين إلى معوقات للذكاء التربوي، وهو ما أدى إلى ظهور حَراك تربوي دفاعا عن أصالة المنظومة التربوية ضد أي تدجين أو تدجيل يتخذ من دعوى تطوير المنظومة التربوية وسيلة لإفراغها من محتواها وإخراجها عن أصالتها.

لقد قضينا عقودا كثيرة ندور في حلقة مفرغة، وأخفقنا في رسم إستراتيجية إصلاحية تربوية واضحة المعالم والمضيِّ بها إلى نهايتها، وهذا الإخفاق تتقاسمه المنظمات التربوية والنقابية التي دخلت في جدال عقيم ثم تحول الجدال إلى نزال وغفل المصلحون عن الإصلاح وانشغلوا بعد قطيعة مستحكمة بإصلاح ذات بينهم.

لا ننكر وجود إصلاحات تربوية، ولكنها إصلاحات يشوبها كثيرٌ من الارتجال والاختزال، ارتجال سببه غياب العقل الإصلاحي، واختزال سببه النظرة المجتزأة لعملية الإصلاح التربوي التي يمعن أصحابها في تفاصيل التفاصيل من غير إدراك للطبيعة الشمولية لعملية الإصلاح ولسلم الأولويات الذي يجعل أمرا يتقدم على آخر.

إن تجدد النقاش حول إصلاح المنظومة التربوية مع كل دخول مدرسي في ظل استمرار غياب الحلول يوحي بأننا لم نفقه ماهية الإصلاح التربوي وبأننا لا نملك تصورا حقيقيا لأبعاد الأزمة التي تعانيها المنظومة التربوية. إن الإصلاح التربوي من أصعب وأعقد الإصلاحات لأنه إصلاحٌ متعدد الأوجه يشمل إصلاح المنظومة التربوية وإصلاح منظومة القيم المرتبطة بها، فكل إصلاح تربوي لا يراعي هذا الشمول مآله الفشل.

لقد آن الأوان أن نضع جهودنا في الإصلاح التربوي على المحك ونقيِّم أداءنا ونستدرك أخطاءنا، فإن لم نفعل فقد حكمنا على أنفسنا بالفشل في إدارة الإصلاح التربوي ووجب علينا الإقرارُ بأننا أولى بالإصلاح؛ إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج.

إن الإصلاح التربوي عملية معقدة ومستمرة لا تجدي معها التصورات السطحية والآنية التي لا يلوي أصحابُها على شيء إذا لم يضعوا في الحسبان جملة من الأمور لا يغني أحدها عن الآخر بل يرتبط بعضها ببعض ارتباطا عضويا وتفاعليا وتكامليا.

إن النقاش حول إصلاح المنظومة التربوية يجب أن يتم في أطر معرفية واستشرافية وسوسيولوجية، فكل إصلاح تربوي خارج هذه الأطر هو إصلاحٌ بلا معنى وعديم الجدوى.

إن تصوري لإصلاح المنظومة التربوية يتلخص في النقاط الآتية:

أولا: يجب إيلاء التربية والتربويين المكانة التي يستحقونها ومحاربة الصورة المبتذلة التي تصور قطاع التربية على أنه قطاعٌ غير منتج وأنه يشكل عالة على الدولة والمجتمع، ويكفي لترسيم هذه المكانة تطبيق التعليمات والتوصيات ومحاضر المشاورات والمناقشات حول واقع المنظومة التربوية والتي ننتظر تجسيدها على أرض الواقع. إن رجل التربية هو حجر الأساس في المجتمع وهو المبتدأ والخبر في أي إصلاح تربوي، ويحضرني هنا نقاشٌ حادٌّ دار بين المستشارة الألمانية المغادِرة إنجيلا ميركل وبين بعض النقابات العمالية الألمانية المحتجة على قرار رفع أجور المعلمين، فقالت لهم: هل يمكن أن أسوِّيكم بمن درَّسكم؟ فبهت الجميع وسكتوا وانصرفوا. وفي اليابان، يعدُّ راتب الأستاذ هو الأعلى في سلم الأجور. إن تحسين مكانة المعلم لا تقف عند زيادة الأجور فهذا مطلب اجتماعي يحق له ولغيره وإنما بإنزاله منزلته التي يستحقها فمن ثقافتنا الدينية أن ننزل الناس منازلهم.

ثانيا: ضرورة تأسيس عملية الإصلاح التربوي على العنصر القِيَمي، وأعني بالعنصر القيَمي منظومة القيم الحضارية والوطنية التي لا يكون للعملية التربوية معنى من دونها، فالمنتوج التربوي هو نتاج امتزاج هذه القيم. إن التركيز على العنصر القيمي في الإصلاح التربوي من شأنه أن يحافظ على أصالة المؤسسة التربوية ويحصِّنها ضد كل الدعوات التغريبية والاستئصالية التي يرفع أصحابها شعارات كاذبة خاطئة ظاهرها تطوير المنظومة التربوية وباطنها تدمير ركائزها الحضارية والوطنية تحت ذريعة مجاراة التطورات العالمية.

لست من الرافضين لتيار العولمة في مجال الموروث الثقافي الإنساني العالمي المشترك، ولكنني من الرافضين ومن دون هوادة لتيار عولمة القيم الحضارية الخاصة التي تعبِّر عن خصوصيات كل مجتمع، ومن هذه القيمِ القيمُ التربوية التي تعبِّر عن توجهات الأمة. من المفارقات التي وقفت عليها عند اشتغالي بالمقارنة بين المنظومات التربوية العالمية أنني وجدت أن المنظومة التربوية في “إسرائيل” مؤسسة على تعاليم التوراة والتلمود، في حين وجدت أن بعض المنظومات التربوية العربية تحمل في طياتها كثيرا من الأفكار الوافدة والمستورَدة التي لا تتلاءم بل تتصادم مع أصولها الدينية وموروثها الحضاري والوطني. من المفيد في هذا الصدد الإشارة إلى أن من بين أنجح المنظومات التربوية في العالم المعاصر المنظومة التربوية اليابانية والصينية وهاتان المنظومتان مؤسستان في عمومهما على ما استخلصه التربويون من التعاليم الدينية لأهورا مازدا وكونفشيوس، وعلى النقيض من ذلك نجد فصاما نكِدا بين منظوماتنا التربوية وبين تعاليمها الدينية وكأنها وُضعت لطمسها وتغييب دورها الحضاري وبُعدها التربوي.

ثالثا: يجب أن تتوجَّه جهودُ الإصلاح التربوي إلى مراجعة محتويات الكتاب المدرسي الذي يعدُّ المصدر الأول للمعلومة للتلميذ والمعلم في آن واحد. إن الحديث عن محتويات الكتاب المدرسي من القضايا التي تثير مواجعي فقد اطلعت قبل مدة على محتويات عينة من الكتب المدرسية في مادة العلوم الإسلامية فوجدت عجبا، فبعضها يغلب عليه النقل الحرفي إن لم أقل التحريفي لكثير من الأحداث الإسلامية التي كُتبت بطريقة قصصية جعلتها أقرب إلى القصص الروائية التي نقرأها في كتاب ابن المقفع وكتاب كليلة ودمنة وغيرهما، والأخطر من ذلك أن هذه الكتب تقدم للناشئة سيرة الأنبياء في قالب تاريخي يجعل منهم قادة تاريخيين لا تختلف سيرتُهم كثيرا عن سيرة القادة التاريخيين الذين نقرأ عنهم في كتب التاريخ والملاحم. ليس من المقبول -بمنطق الغيرة على الدين والوطن- أن تطغى على الكتاب المدرسي سيرة أبولو وعظماء روما وغيرهم في حين يخلو الكتاب المدرسي أو يكاد من ذكر سيرة القادة الإسلاميين والوطنيين.

رابعا: جزأرة المنهاج التربوي ووقف عملية استيراد المناهج التربوية، فالعقل التربوي الجزائري قادرٌ على الإبداع في هذا المجال، مما يجعلنا في غنى عن أي مناهج مستورَدة وضعت لبيئتها ولا يصلح توطينها في مقرراتنا التربوية بأي شكل من الأشكال. إن الهدف من الدعوة إلى جزأرة المنهاج التربوي لا يعني عزل منظومتنا التربوية، وإنما إيجاد منظومة تربوية وطنية من خالص اجتهاداتنا وبنات أفكارنا “فما حك ظهرك مثل ظفرك”.

خامسا: إطلاق ورشات كبرى للإصلاح التربوي يساهم فيها خبراء التربية الذين يشكل وجودهم في هذه الورشات إضافة نوعية، ففوضى الورشات المفتوحة التي لا تحقق هذا البُعد الانتقائي تعدّ من أسباب فشل الإصلاح التربوي.

إن خبراء التربية الذين أتحدث عنهم ليسوا بالضرورة من المفتشين والمستشارين وغيرهم، فقد لا يكون هؤلاء -جلهم أو بعضهم- مؤهلين لقيادة الإصلاح التربوي مما يؤثر سلبا على أداء المنظومة التربوية. إن هيئة الإصلاح التربوي التي ألحُّ عليها  ليست هيئة تربوية أو بيداغوجية من شاكلة الهيئات التربوية والبيداغوجية المعتادة، وإنما هي هيئة تربوية خاصة تملك من القدرة على وضع المشاريع وإنجاح المخططات التربوية ما لا يمتلكه غيرُها.

مقالات ذات صلة