الرأي

الوسطيّةُ ليستْ أسودَ وأبيضَ فقط

أبو جرة سلطاني
  • 820
  • 11

كثيرٌ من الناس يعتقدون أنهم يفكرون، والحقيقة أنهم يلوكون عادات فكريّة خاليّة من لوازم التفكير السبع، وهي: القدرة على التّفكير. ترويض العقل على ريّاضة التأمّل في شيء واحد بطريقة مركّزة. تحديد قضيّة يتمّ التّفكيرُ فيها. جمع الشّواهد الخادمة للموضوع المراد بحثه. إمهال العقل الوقت الكافي ليتخمّر الموضوع. تدقيق جوهر الفكرة وتحديد المقصد منها، فكثرة التفكير التّجريدي في شيء واحد يقتله، فإذا نضجت الفكرة وجب انتقاء الألفاظ المُناسِبة للتعبير عنها. فإذا تجمّعت هذه اللوازم وجب الحذر من مُفسدات التّفكير السّبعة القاتلة للإبداع، وهي: التقليد. والغفلة. والعادة. والتّبعيّة. والتعصّب. معاداة التاريخ. والتنكّر للفلسفة.

هذه المقدّمة استدعتها بعض التّعاليق التي سجّلها بعض القرّاء المتابعين للمقالات السّابقة، لاسيما المقال المعنون بـ”إما أن تُغيّر وإما أن تتغيَّر أو تواجه قانون الاستبدال”، فقد عاتبني أحد القرّاء مشكورا، سمّى نفسه “فرانشيز” على أنّ الوسطيّة التي أتحدّث عنها هي وسطيّة انتقائيّة! هاجسها الوحيد المتطرّفون الإسلاميون، أكثر من المتطرّفين العلمانيين! رغم أنّ كثيرًا من التطرّف الإسلامي يستمدّ ذخيرته ووقوده من تطرّف العلمانيين. ثم يضيف: أن مبادرة المنتدَى رحّبت بكل أطياف العلمانيّة، ولكنّها رفضت بعض أطياف الإسلاميين.. ويختم بالقول: لا مكان للتطرّف في الوسطيّة سواء كان إسلاماويّا أو علمانيّا، وإلا فهي ليست وسطيّة.

شكرًا على رصدك الدّقيق، وملاحظاتك القيّمة. فقد منحتنا فرصة لتوضيح ثلاث مسائل نحرص كل الحرص على أن يدركها كل من يريد أن يفهم معنى الوسطيّة، من منطلقات متحرّرة من سوالب التفكير: فلا يركن إلى التقليد. ولا يقبل أن يعيش في حالة غفلة عن التحوّلات المتسارعة من حوله. ولا يستسلم للعرف والعادة والإلْف الذي يعطّل وظيفة العقل الأولى؛ وهي التفكير الحرّ. ولا يكون عبدا لهواه ولا لهوى غيره. ولا يتعصّب لرأيه متى ما أبصر الحقّ. ولا يدير ظهره للتاريخ، كونه المرآة التي تقرأ الأمم على صفحتها وجه الماضي وتستشرف في آفاقها صورة المستقبل. فأمّة بلا ماضٍ لا حاضر لها، أما مستقبلها فبيد من يصنعون لها تاريخها ويكتبونه بأقلام المنتصِّرين ويدرّسه المنهزمون للأجيال بلغة المستعمِر. ولا يعادي الفكر الفلسفي الذي ـ شئنا أم أبيْناـ هو بوابة التحرّر من العادة الفكريّة إلى التفكير المبدع.

بطرح هذه العوامل المُحبِطة جانبا، يمكن أن نفهم الفرْق بين تطرّف بعض غلاة الإسلاميين، في مقابل تطرّف بعض غلاة العلمانيين. وكلاهما مرفوضٌ من منطلق أنّ التطرّف وقوفٌ على حافّة الفكر، وعلى طرف المجتمع، وعلى هامش الحضارة.. ولا يهمّ أن يكون المتطرّف أخضرَ أو أحمرَ أو برتقاليّا. فقد ذمّ الله الفريقيْن معا، فسمّى المتطرّفين باسم الإسلام عابدين على حرْف (أيْ على حافّة الدّين وأطرافه الرّخوة). الحج: 11. وسمّى المارقين عنه ناكصين على أعقابهم كبْرًا بالنّفس وهجرانًا للحقّ. المؤمنون: 66/67. ودعا الجميع ـ بمن فيهم أهل الكتاب ـ إلى ترْك الغلوّ في الدّين، فقد تطرّفت النّصارى في دينها فأوْصل التطرّف بعضَ فرقهم إلى تأليه عيسى (ع)، وهو الذي قال لهم: أنا عبد الله ورسوله. النساء: 171/172.
هذا عن بديهيات منهج التّفكير الوسطي. أما ملاحظاتنا عمّا يراه البعض تحاملا على جهة لحساب أخرى، ويراه آخرون تمييعًا للدّين وتيْسيرا على من يجب التشدّد ضدّهم، ويراه فريقٌ ثالث تزلّفًا للعلمانيين لا جدوى من ورائه، وفريقٌ رابع يراه مداهنة نهى الشّرع عنها، ومهادنة ليست منضبطة بشروط الهدنة المقرّرة في فقهنا المعتمَد.. وكل هذه الآراء نحترمها، من حيث المبدأ، من منطلق التّسليم بالرّأي الآخر، حتّى يخضع للحوار الذي هو الباب الأوسع لإدراك الصّواب ونبْذ الخطأ، مهما كانت الجهة التي تروّج له، فالحقّ أحقّ أن يُتّبع، متى ما قام الدّليل على صحته وسداده.
أولا، شهادة للتّاريخ، أقول إنّ استجابة بعض اليساريّين لنداء الوسطيّة كان أسرع من تجاوب بعض اليمينيّين له، من منطلق أنّ مصطلح “الوسطيّة” في ذهن كثير من المتابعين مصطلحٌ إسلامي. وهذا خطأ في الفهم، وضيق في التصوّر، وأنانيّة في احتكار المصطلحات.. فما نحن بصدده دعوة عامة إلى وسطيّة اجتماعيّة تتيح للجميع التعايش معا في سلام. وليست أبدًا تنظيرًا جديدًا للعقيدة ولا للشّريعة، ولا حتّى ملامسة للفقه الدّستوري، وطبيعة الدّولة في مفهوم الحكم بما أنزل الله. فذلك مجال أوسع من إمكانيات أفراد، وأدقّ من أن تنهض به العامّة، وأشرف من أن تتداوله الغوغاء في الفضاء الأزرق.
ثانيّا، ليس من الحكمة في شيء الحكمُ على فكرة كبيرة من خلال مقال واحد، أو مجموعة مقالات، مازالت تضع الأسس العامّة كمدخل لفهم كثير من الأشياء التي توارثناها من عادات فكريّة نلوكها ولا نعرف معناها على وجه الدقّة: كالدّعوة، والخُلْطة، والحوار، والحكم، والرّأي، والعدوّ، والصّديق، و”نحن والآخر.. ولعلّ مردّ ذلك إلى أنّ المتطرّف لا يبصر عادة إلاّ لونيْن: أسود وأبيض. وهو نوعٌ من الإصابة بعمى الألوان. فلا يبصر المصاب إلاّ بياضه مقابل سواد كل العالم: هذا حلال وهذا حرام. هذا صديق وهذا عدوّ. هذه دار حرب وهذه دار سلام.. والوسطيّة ليست فيْصلة في الثّوابت والمبادئ والعقائد والتكاليف الشّرعيّة.. فتلك مقرَّرات ثابتة ليس لنا أن نتقدّم عنها أو نتأخّر. إنما الوسطيّة تدبيرٌ مشترك في منطقة العفْو التي لم يقطع فيها الوحي بنصّ، وليس خافياً عن أبناء الإسلام أنّ دينهم موصوف بالربّانيّة والمرونة والشّمول والواقعيّة.. وأنّ من واقعيته قدرته الفائقة على الاستيعاب.
الإسلام كالبحر: يظنّ كل واقف على شاطئه أنه يناجيه، وهو يناجي الجميع، ويحمل على صفحته الأثقال كلها، وينظّف نفسه من السراخس والأشنيّات. ولا يعبأ بمن يرميه بحجر كلما استفزّه هدوؤُه. ويلفظ الأجسام المتعفّنة بعد أن تفقد حيويتها وحياتها. وتطفو الأوزان الخفيفة على صفحته، إذا فقدت وزنها. وينفي خبثَه بقوّة أمواجه، ومن عانده أدّبه. ومن ظنّ أنه بلغ قاعه هلك بغروره. ومهما قيل فيه يكفيه شرفا أن اسمه البحر. فهل من اغترف منه غرفة يقول: هذا هو البحر!؟
وثالثا وأخيرا، واقعنا اليوم يدعونا إلى توسيع مظلّتنا من الأسرة إلى الدّولة، ومن الجماعة إلى المجتمع، ومن الخطاب الإسلامي إلى الخطاب الإنساني، والبداية بالتدرّب على فقه الحوار وحسن الاستماع للمخالِف، والبحث عن نقاط الالتقاء.. دون الابتعاد عن الآخيّة التي تشدّنا إلى ثوابتنا وهويتنا وأصالتنا. ولا يكون ذلك إلاّ بتحويل مسائل اختلاف التضادّ والتّصادم إلى اختلاف تنوّع وتكامل، يثري الحياة الاجتماعيّة للمجتمع الإنساني كله، ويبتعد ـ قدر المستطاع ـ عن الفكر الصّدامي الذي يشلّ حركة الحياة ويتيح الفرصة لأصحاب المخالب والأظافر والأنياب والمياسم.. ليصفّوا حسابات قديمة بطرق غير لائقة.
إذا هاجمك متطرّف فلا تردّ عليه، ودعْه يصرخ حتّى تتقطّع أوداجُه. فنَفَسُه قصير وحجّته ضعيفة وأنصارة قلّة.. لذلك يداري ضعفه بكثرة الصّراخ، ظنّا أنّ الصّوت الأعلى يكتم الحقيقة، وتطاوله عليك سيرهب الاعتدال فيك.. دعه يصرخ حتّى تتقطّع أوداجه، فإنه إذا طال صراخه اكتشف الناس حقيقته، فحاصروه وعلموا أنّ الدّنيا أجمل من أن تُترك لمصاب بعمى الألوان يصبغها بالأسود والأبيض.

شهادة للتّاريخ، أقول إنّ استجابة بعض اليساريّين لنداء الوسطيّة كان أسرع من تجاوب بعض اليمينيّين له، من منطلق أنّ مصطلح “الوسطيّة” في ذهن كثير من المتابعين مصطلحٌ إسلامي. وهذا خطأ في الفهم، وضيق في التصوّر، وأنانيّة في احتكار المصطلحات..

مقالات ذات صلة