الرأي

الوطنية كمرجعية لبناء دولة المواطنة

حبيب راشدين
  • 879
  • 4
ح.م

مراسيم أداء اليمين الدستورية للرئيس المنتخَب أريد لها أن تخرج عن المألوف، بحضورٍ واسع لقيادات مؤسسات الدولة وعلى رأسها رئيس الدولة المؤقت، والحكومة، وقيادة أركان الجيش، وجمع غفير من السفراء المعتمدين، مع تفرُّد الحفل بحضور المتنافسين الأربعة، وبتوجيه أول خطاب للشعب أعاد فيه الرئيس التذكير بما التزم به في الحملة.

أكثر من رسالة وُجِّهت في هذا الحفل، يأتي على رأسها طمأنة الموطنين وشركاء البلد حيَّال وحدة وسلامة مؤسسات الدولة التي كانت موضوع الرهان الأول لخيار الخروج من الأزمة عبر الالتزام بالدستور، مع إلحاح الرئيس المنتخَب على تثمين الدور الذي اضطلع به رئيس الدولة، والحكومة، وقيادة أركان الجيش، والسلطة الفتية لإدارة الانتخابات.

البلد يكون، مع نجاح الدولة في إدارة هذا الاستحقاق، قد خرج من عنق الزجاجة، وهو مقبلٌ على تجربة فريدة في إعادة بناء مؤسسات الحكم، وتغيير سلس وآمن لنظام حكم كان دون شك قد بلغ أرذل العمر من رأسه إلى أخمص قدميه، مع توغُّل وهيمنة القوى الفاسدة المفسدة في قلب السلطة، والموطِن الأول لصناعة القرار.

وإذا كان الاستحقاق الرئاسي قد غلّق باب المغامرة بما كان يُعرض من صيغ مرتجلة للانتقال خارج الدستور، وحرم خصوم وأعداء البلد من ريع الفوضى والتخبُّط المرافقين للمراحل الانتقالية، ومنح البلد قيادة منتخَبة بشرعيةٍ كاملة غير مطعون فيها، فإن الرئيس المنتخب قد رسم في خطابه حدود التحديات التي تواجه البلد في الداخل والخارج، وهي كثيرة ومعقدة، يأتي على رأسها استعادة الثقة بين المواطن ودولته ونخبه، وواجب تدبير نقل سريع وسلس للمشعل إلى الجيل الشاب، وقد اعتبر الرئيس نفسه محض حلقة وصل بين جيلين، ووجَّه الشباب نحو الخيار الآمن لانتزاع السلطة بالمشاركة في القادم من مراحل إعادة بناء مؤسسات الحكم.

غير أن الرئيس المنتخَب لم يترك، لا خلال الحملة، ولا في أول خطاب يوجِّهه للشعب، مجالا للشك أو المضاربة حيال المرجعية الفكرية والسياسية التي يريد أن تقود خطواته، وتدمغ ما يعِد به من برامج إصلاحية للبلد، وليس من الصدفة أن يوجِّه خطابه تحديدا لمن وصفهم بـ”أحفاد الشهداء، والمجاهدين، والوطنيين” لتكون “الوطنية” هي الوارث الشرعي والوحيد، المؤهِّل لقيادة البلاد وإدارة التغيير، مع ضمان استمرارية منهج ثورة التحرير وإرثها الأخلاقي.

ولأنَّ “الوطنية” التي تعني حب الوطن، وإعلاء مصالحه على المصالح الفردية الحزبية والفئوية، هي عنوانٌ مشترك جامع لا خلاف عليه، فإنها لا تُقصي أحدا، أيا كانت مرجعيته السياسية، وتنوع المشارب الفكرية والثقافية، وهي دون شك أوضح وأصلح من مصطلح “المواطنة” حمَّال الأوجه، والذي تشتغل عليه ثقافة العولمة وكنائسُها لضرب استقرار الأوطان، واستنزاف مواردها بحجة الدفاع الكاذب عن المتشابه من حقوق المواطنة.

وفي هذا السياق، فإن مسار إعادة بناء مؤسَّسات الحكم ابتداءً من مراجعة الدستور، يُفترض أن يكون ورشة مفتوحة لجميع الحساسيات الفكرية والسياسية، وجميع النخب والقوى الاجتماعية من دون إقصاء، بما في ذلك القوى والنُّخب التي اجتهدت وأخطأت، وتوجب علينا أن نلتمس لها الأعذار فيما كان يطبع نظام الحكم من فسادٍ سياسي هو أخطر على البلد من الفساد المالي.

أمام البلد فرصة لا تُعوَّض لتجسيد هذا المبدأ الجامع، بوضع الحوار الوطني القادم حول مراجعة الدستور وإعادة بناء مؤسسات الحكم، بتوافق القوى المدعوَّة دون إقصاءٍ للحوار، على واجب الاحتكام في السراء والضراء إلى مصلحة الوطن أولا وأخيرا، قبل المفاضلة بين البرامج والأفكار والسياسات، التي تتغيَّر بالضرورة بتغيُّر الظروف وتجدُّد الحاجات، والتي يفصل فيها المواطن، صاحب السلطة التأسيسية، عبر ما يتوفَّر له من قنوات اختيار وكلائه وممثليه.

الديمقراطية كانت وستظل وسيلة وليست غاية، حتى وإن كانت في تقدير بعضهم أقلَّ الأنظمة سوءا، لكنها لا تكفي لبناء الأوطان، والدفاع عن مصالح الشعوب، حين تتنصل النخبُ الحاكمة فيها عن القيم الوطنية، لتتحوَّل إلى أدوات طيِّعة خدومة لمصالح القوى المهيمِنة في الداخل والخارج، في عالم يبدأ فيه استعباد الشعوب بتفكيك الدول، واستباحة الأوطان للنهب والافتراس.

مقالات ذات صلة