-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه!

سلطان بركاني
  • 1707
  • 0
بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه!

في الأيام القليلة الماضية، بالتّزامن مع ذكرى رحلة الإسراء والمعراج، أثار بعض العلمانيين من هواة الفرقعات الإعلامية مسألة الحكم على من يرفض الإيمان برحلة الإسراء والمعراج، وجادلوا طويلا في أنّ الإيمان بها ليس من ضروريات الدين، وأنّ إنكارها لا يخرج المنكِر من دائرة الإسلام.. والمصيبة أنّ بعض المنتسبين إلى العلم انحنوا لهذه الحملة فجاملوا المكذّبين وأفتى من أفتى منهم بأنّ التّكذيب بالإسراء والمعراج -جملة وتفصيلا- لا يخرج المكذّب من الإسلام، مع علمه بأنّ إثارة هذه القضية خلفها مآرب تصل إلى تشكيك الجيل الجديد في كتاب ربّهم بعد تشكيكهم في سنّة نبيّهم.

الحديث عن الإسراء ورد في آيات قرآنية صريحة، والتّكذيب به إجمالا يعدّ ردّا لكلام الخالق سبحانه، وهو كفر بالإجماع.. وحتى المعراج وردت الإشارة إليه في سورة النجم، ووردت به الأحاديث المتواترة، فهو ممّا يفيد علم اليقين.. وهؤلاء الذين يكذّبون برحلة الإسراء والمعراج لا يستندون إلى خلاف العلماء حول ما إذا كانت الرحلة يقظة أم مناما، بالروح فقط أم بالروح والجسد، وإنّما قصدهم تكذيب الرحلة جملة وتفصيلا، في حلقة من حلقات سلسلة طويلة من الجرأة على مصادر المسلمين والطّعن فيها وفي صدقيتها، في مقابل سكوت مطبق عمّا حوته كتب الديانات المحرّفة كاليهودية والنّصرانية، حيث لا يجرؤ أحد من هؤلاء الذين جعلوا نصوص القرآن والسنّة محلا لنقاشاتهم المبنية على الجهل، على انتقاد نصّ في التوراة والإنجيل المحرّفين، مهما بدا مخالفا للمعقول وللتاريخ، فضلا عن أن يجرؤ أحدهم على تكذيب الهولوكوست مثلا، أو حتى تكذيب اليهود في دعوى أحقيتهم بأرض فلسطين!

رحلة الإسراء والمعراج كانت معجزة من المعجزات التي أيّد بها المولى -سبحانه- خاتم أنبيائه وإمام رسله، والمعجزات أمور خارقة للعادة، خارقة للزّمان وللمكان، وربّما خارقة لقوانين المادّة.. قد يصل العلم مع تطوّره إلى تفسيرها، وقد لا يصل، مثال ذلك معجزة ميلاد نبيّ الله عيسى عليه السّلام.. العلم أمامه أغوار في عالم الشّهادة يحتاج إلى عقود وقرون لسبرها، كيف بعالم الغيب الذي لا سبيل للعلم التجريبيّ إليه، وقصارى ما يمكن أن يصل إليه مقاربات تثبت إمكانية ما يطرحه الدّين من حقائق.. المؤمن لا يتردّد في الإيمان برحلة الإسراء والمعراج، تصديقا بما أخبر به الحقّ سبحانه وما أخبر به نبيّه المعصوم صلّى الله عليه وسلّم، وأمّا الكافر والمنافق، فإنّ حالهما كما قال الله: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾.

دامت الرحلة المعجزة ليلة واحدة، قطع فيها النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- على ظهر البراق حوالي 1234 كم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثمّ قطع مسافات ضوئية لا يعلم مداها إلى الله إلى السماوات العلا.. فلمّا عاد وأخبر قريشا بالخبر كذّبه المكذّبون، فعرض لهم من الأدلّة ما يثبت حقيقة أنّه رأى المسجد الأقصى ودخله، لكنّهم أصرّوا على التكذيب، وانطلقوا إلى صاحبه أبي بكر يسألونه عن موقفه من الخبر، وكانوا ينتظرون أن يشكّ فيه، ففاجأهم بقوله: “لئن كان قال ذلك لقد صدق”، أسقط في أيديهم وسألوا أبا بكر مرّة أخرى: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: “نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة”، ومن يومها أطلق على أبي بكر -رضي الله عنه- لقب الصدّيق، وأصبح صديق الأمّة الأول. وهكذا يجب أن يكون موقف كلّ مسلم في كلّ زمان ومكان من أيّ خبر يجده في كتاب الله أو فيما صحّ من سنّة رسول الله؛ يؤمن به ويسلّم، لأنّه يعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علما.. أمّا مرضى القلوب، فديدنهم واحد في كلّ زمان ومكان؛ وها هم في زماننا هذا يشكّكون في رحلة الإسراء والمعراج التي ثبتت في كتاب الله وفيما تواتر من سنّة رسول الله، وينسون أنّ أجدادهم الأوّلين لو عرض عليهم أنّ الإنسان يمكن أن يكلّم إنسانا آخر في أطراف الأرض صوتا وصورة لكذّبوا بذلك واتّهموا من يحدّثهم بالجنون، لكن ها هو العلم يجعل ذلك ممكنا، ولو أنّ الأوّلين قيل لهم إنّ الإنسان يمكن أن ينزل على ظهر القمر لكذّبوا بذلك وقالوا باستحالته، لكن ها هو الإنسان ينزل على القمر في زماننا هذا، وقد يتطوّر العلم ليكتشف أنّ التنقل بالسّرعات الضوئية وبما هو أعلى من ذلك ممكن، لكنّ المنافقين لا يعلمون ولا يفقهون.. وها هو العلم يتحدّث عن إمكانية نقل الأجسام من مكان إلى آخر بعيد بسرعة الضّوء بعد تحويلها إلى طاقة، ثمّ إعادة الطّاقة إلى حالتها الجسمية عند الوصول إلى المكان المقصود.

ليس لازما أن تكون رحلة الإسراء والمعراج وفق هذه النّظريات المطروحة حاليا ولم يمكن البشرية تطبيقها إلى يوم النّاس هذا، فيمكن أن تكون بأسباب لم تخطر على عقول العلماء بعد، وقد تكون بأسباب فوق تفكير البشر، والعقل لا يحسن به أن يغامر بإنكار ما يراه غير ممكن في حدود الموجود والمتاح، لأنّ هذا المتاح يتغيّر بتغيّر الزّمان وتطوّر العلم. في زمن الرّحلة ما كان ممكنا أن ينتقل الإنسان بوسائله الأرضية من مكّة إلى بيت المقدس ويعود في الليلة نفسها، لكنّ هذا أصبح متاحا الآن بتوفّر وسائل الطيران، فالمسافة يمكن قطعها في مدّة ساعتين ذهابا وساعتين إيابا، أي إنّ الرحلة لا تستغرق أكثر من 4 ساعات في ليلة واحدة.

ليس من حقّ أحد أن ينكر ما لم يحط بعلمه، لأنّ من قواعد العقل: “لا يلزم من عدم العلم بالشّيء العلم بعدمه”، وما يخفى عليك اليوم قد يظهر لك غدا، وما يخفى عليك اليوم وغدا قد يكون ظاهرا لغيرك، وكلّما زاد مخزون العلم عند الإنسان زادت مساحة إدراكه، واتّسعت لديه مساحة الممكن وتقلّصت مساحة المستحيل، لذلك نجد العلماء من أكثر النّاس تواضعا وأقلّهم إنكارا للغيب، لأنّهم يعلمون جيدا الفرق بين ما تحار فيه العقول وبين ما تعتبره محالا أو كما يسمّيه الفلاسفة “الفرق بين محالات العقول ومحاراتها”، ولذلك نجد أكابر العلماء يعترفون بعدم اختصاص العلم في بحث ما هو خارج عن الطّاقة والمادّة، ويعترفون بأنّ العلم ليس من اختصاصه الخوض في الغيبيات نفيا ولا إثباتا، ومن زعم أنّ العلم ينفي إمكانية حدوث أمر غيبي، فهو لا يعرف العلم ولا الغيب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!