-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بين سَارِقٍ سَاِرقُ سَاِرقٍ

التهامي مجوري
  • 2357
  • 5
بين سَارِقٍ سَاِرقُ سَاِرقٍ

ليس من عادتي الكتابة في مثل هذه المواضيع، وتعميم سلبياتها على الإدارة والمجتمع، ولكن ما حيلتي إذا كان هذا الموضوع يطاردني، ويلح علي منذ مدة، بحيث كلما تجاهلته ظهر في الواقع ما يدعو إلى ضرورة الكتابة فيه.

وآخر ما دعاني للكتابة، هو ما تقرر في قانون المالية الجديد، من ان النشاطات التجارية والصناعية الخاضعة للضرائب، التي لم يبلغ رقم أعمالها 30 مليون دينار-أي 3 ملايير سنتيم، لها الحق في التحول من النظام المحاسبي الحقيقي إلى الدفع الجزافي، أي تصبح هذه النشاطات، غير متابعة في حجم نشاطها، وإنما يكفيها أن تقبل بمقترح تقترحه إدارة الضرائب فتدفع ما عليها من ضرايب سنويا، والذي يكون أقل من ثلاثة ملايير بطبيعة الحال. وإذا تجاوزت ذلك تخضع للنظام المحاسبي.

ولتوضيح المسألة أكثر، فيما يريد تقريره قانون المالية الجديد، هو يمكن لكل تاجر، حسب هذا القانون، لم يبلغ رقم أعماله -أي مبيعاته- ثلاثة ملايير سنتيم في السنة، ان يدفع 5 بالمائة من رقم الأعمال المقرر في حقه، مقسمة على الفصول الأربعة وكفى، ولا يتابع في أي شيء بعد ذلك.

والملفت والجديد هذه المرة في قانون المالية، فيما يتعلق بالدفع الجزافي، هو التعميم على جميع النشاطات، من الكشك والبقال إلى شركة الاستيراد والتصدير؛ لأن المعيار هنا هو رقم الأعمال، وليس نوع النشااط أو أهمية الشركة، وكذلك سقف رقم الأعمال المرتفع جدا، ثلاثة ملايير سنتيم، حيث يعفي الآلاف من التجار من المحاسبة، ويبشر بعد ذلك بقطع رزق المئات من المحاسبين، لأن مكتب المحاسبة الذي يبلغ عدد زبائنه مائة تاجر مثلا كلهم رقم أعمالهم دون 30 مليون دينار، إما أنه يصدُق معهم ويعفيهم من المحاسبة، وهي في صالحهم بطبيعة الحال على حسابه، وإلا يضطر لأن يكذب عليهم ويقنعهم باختيار المحاسبة والنظام المحاسبي الحقيقي، وهي في صالح ولكن على حسابهم.

ومتابعتي لهذا الموضوع منذ سنة 1975، وهي السنة التي تعرفت فيها على نظام الضرائب، وطرق تعاملها مع متعامليها، وأنا ألاحظ أن هذه الإدارة تتعامل مع متعامليها، وكأنهم سُرَّاق، والمتعاملون معها بطبيعة الحال، يتعاملون معها بنفس المنطق.

ولا يهمنا في هذه الوقفة، سنوات العهد الاشتراكي؛ لأن تلك الأيام لم تكن فيها شركات خاصة يعول عليها في تحصيل الضرائب، ولا أغنياء يمكن أن تعول عليهم الدولة في امتلاء صندوقها؛ بل كان يوجد من الضمانات الاجتماعية، والعدالة في توزيع الفقر وشيء من غنى النفس، ما يغني عن متابعة مثل الموضوع والاهتمام به.

لا شك أن نظام الدفع الجزافي، كان دائما، وهذا طبيعي، وهو خاص بصغار التجار، من البقالين والأكشاك والعطارين ومطاعم الفصول الأربعة والباعة المتجولين..الخ، ويلحق بهم تجار الجملة محدودي النشاك، من الذين لا تتجاوز مداخيلهم أجور العمال البسطاء. وما عدا هذه الفئة من المفروض أنهم يحاسبون على نشاطاتهم التجارية والصناعية، وفق النظام المحاسبي.

ثم إن الإعفاء من المحاسبة يمثل الاستثناء وليس القاعدة، أي هو عبارة عن إجراء خلاف القاعدة، رأفة بأصحاب النشاطات الضعبفة، وإلا فإن الأصل أن كل نشاط تجاري أو صناعي يخضع للمحاسبة الوطنية.

ومن ثم فإن مثل هذا القانون، يفهم على أنه يفترض في التجار التهرب الضريبي، فيضع لهم سقفا عاليا، ليجبرهم على التصريح بالحجم القريب من التقدير المفترض، الذي تقترحه إدارة الضرائب على التجار؛ لأن التقديرات تقوم بها الإدارة في لجنة محلية، وتعرضها على التاجر، والتاجر له الحق في الطعن، وفي غالب الأحيان لا يؤخذ طعنه بعين الاعتبار، فلا أتوقع بعد هذا القانون أن يقبل نشاط بأقل من مليار سنتيم على الأقل، وإذا كان التاجر مستفيدا من هذا الإجراء فبها، وإلا فإنه ينسحب من الحياة التجارية الرسمية، ويدخل الليل كما يقال، فلا سجل تجاري يقيده ولا وثيقة تربطه، وهنا تكون الإدارة قد خسرت أرقاما هامة؛ لأنني لا أتوقع أن يكون المستفيد من هذا القانون أكثر من المتضررين..

وسوء الظن المتبادل، ليس في هذا المجال فحسب، وإنما تجاوزه إلى مجالات أخرى مثل الاستيراد والتصدير، حيث أن الإدارة ذهبت إلى أبعد حد في التضييق على المتعاملين، بحيث حرمت البلاد الكثير من العلاقات الطيبة بين مؤسسات أجنبية ورجال أعمال جزائريين، بسبب منع الاستيراد والتسديد بالآجال، وفرض التحويل بمجرد الاتفاق بين المتعاملين، ومنع شراء الأجهزة الصناعية المستعملة إلا بشروط وتضييقات لا تليق ببلد يريد النهوض وتشجيع الاستثمار الوطني.. وهذه التضييقات فرضت سبلا في التعامل أبدعها المتضررون من هذه الاجراءات، من أجل الوصول إلى تحقيق ما يريدون، عملوا على تأمين أكبر قدر ممكن من الأموال والحيل المحيطة بها، من أجل أن ينجحوا في مشاريعهم.

والقاعدة المشتركة بين الإدارة ورجل الأعمال الجزائري هي سوء الظن، والتهمة المتبادلة، قبل وقوعها، كلاهما يفترض السرقة أو التهرب في الآخر، ولا يمكن لدولة أو مجتمع أن يسير بهذه الصفة، لا سيما إذا كان في الإدارة، من هو مستعد لخيانتها، سواء اعترافا بخطئها أو خيانة للمهمة التي أسندت إليه.

نحن الآن امام افتراض سارق وسارق السَّارق، فلا يوجد سارق ومسروق، وكل من السارقين، ينطلق من أنه ليس سارقا وإنما هو يسرق سارقا.. ولو أنهما التقيا على مناقشة الإشكالات، التي بينهما لخرجا بما يفيد الجميع بعيدا عن سوء الظن وفساد التقدير والسرقة المتبادلة.

وأذكر نموذجا آخر من السرقة وسرقة السرقة، بين مؤسسة ومواطنين. في الترامواي عندما اطلق أول مرة، من موحوس ببرج الكيفان إلى تماريس في حي الموز، ثمن التذكرة يومها كان 20دج، ثم فتح خط تماريس – رويسو، وأصبحت التذكرة بثلاثة أسعار، 20دج و40دج و50دج، ثم عدلت فتحولت إلى سعر واحد هو 40دج، وذلك بعدما فتح خط جديد من موحوس إلى قهوة الشرقي، فثمن التذكرة الآن بـ40دج، من قهوة الشرقي إلى رويسو.

سبب هذه التحولات هو سوء التقدير وفقدان الثقة بين هذه المؤسسة والمواطن؛ إذ المواطن يركب الترامواي بتذكرة غير مصادق عليها، وتبقى صالحة للاستعمال لمرتين أو ثلاث، ولما أدركت الإدارة هذه الحيلة، عدلت سعر التذكرة كما أرادت، وفي النهاية أصبحت لا تثق في أي أحد بما في ذلك الآلات التي نصبت للمصادقة على التذاكر، وأصبحت المصادقة فورية بمجرد استلام التذكرة مباشرة من عون المؤسسة.

وفي نهاية المطاف يبقى سعر 40دج لمن يركب في الترامواي لموقف واحد أو أكثر، أو من قهوة الشرقي إلى رويسو، سرقة تبحث عمن يسرقها..، وليس عن كيفية معالجتها، لأن المنطق الذي يحكم منطومة البلاد هو يا سارق يا مسروق.

إن هذا النوع من السرقة وسرقة السرقة، لا تقف عند هذا الحد، وإنما تتجاوزه إلى مستويات أخرى، إلى منظومة المجتمع الاخلاقية. فالذي يشعر بالغبن فإنه يبحث عمن يرفع عنه هذا الغبن مهما كلفه ذلك، وسيجده في مسؤول بالضرائب، وفي مسؤول بالجمارك، وفي مسؤول بالوزارة وووو..إلخ، ولما تتطور الأمور بهذا الشكل، يتضخم حجم المعاملات خارج الدائرة الأخلاقية، فيصبح رقم الأعمال، الذي يدور في قضاء المصالح بين المتظالمين [رشاوى وهدايا وعطايا ومكافآت…]، يوازي رقم الأعمال الذي تحصله الخزينة العامة أو أكبر؛ لأن العامل بالوظيف العمومي له ما يحكي عن المظالم التي يعيشها، فمنهم من يكتم داءه حتى يقتله، ومنهم من يدخل الصف، يرتشي كلما سنحت له الفرصةـ اعتقادا منه أنه مسروق ولا بأس بأن يسرق من سرقه، او يخونه.

 

ونحن كل يوم نسمع عن آلاف التظلمات في أمور من المفروض أن يحصل عليها المرء بمجرد المواطنة، وليس بشروط أخرى، لكن عندما يكون سوء الظن هو المهيمن، بين الإدارة والمواطن، وبين المسؤولين فيما بينهم، وبين المواطنين فيما بينهم، فإن ما يعتقده الناس، من أنه قضاء مصالح لهم، او تجاوز مفاسد فرضت عليهم، هو المعيار والمرجع فيما يريدونه في هذه الحياة.        

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • Abderrahmane

    Votre analyse est vraiment pertinente. Je rajoute aussi que la notion de "vol" tient aussi à l'ensemble des déséquilibres mentaux qui sévissent chez nous, notamment "la projection" car chaque Algérien voit en l'autre le vilain, le traître et le voleur et il n'arrive pas à admettre qu'il l'est aussi au même degré que les accusés. Pleurer la Hogra en étant Hagar, est bien le comportement général des individus. Le rôle principal des BONS de ce pays devrait faire en sorte de casser lmiroir

  • إبراهيم

    أولا : يحدث للناس أقضية بقدر ما يحدثون من فجور
    ثانيا : يحدث للناس أقضية على مقاس بعض أفراده

  • زين الدين

    فسارق الزهر مذمومٌ ومحتقر !
    وسارق الحقل يدعى الباسل الخطرُ !
    وقاتل الجسم مقتولٌ بفعلتـه !
    وقاتل الروح لا تدري به البشـرُ !
    جبران خليل جبران

  • أبو سامي

    قال الأستاذ التهامي في مقاله : ( ... العدالة في توزيع الفقر ) !!
    هذه العبارة خير تعليق حول موضوع لي زافيرات انتاوع السريكات منذ فجر الاستقلال
    إلى يومنا هذا !

  • حوار

    الموضوعات التقنية مفيدة ......حسب مقالك حاليا توجد ضريبة على رقم الاعمال فقط ..كل 3 اشهر 5 % من المبلغ المصرح ............اين IRG ....سنويا اعتقد 10% على الربح .