الرأي

بين مشيخة العلم ومشيخة الإعلام

محمد بوالروايح
  • 1460
  • 7
أرشيف

قرأنا لثلة من العلماء القدامى والمحدثين من المؤلفات والمصنفات ما يجعلنا نشهد لهم بسعة العلم الذي وسع ويسع أجيال هذه الأمة سلفهم وخلفهم، وبأنهم كانوا أساطين للعلم لا يشق لهم فيه غبار، يجد طالب العلم فيما كتبوا ما يغذي عقله وفكره، قرأنا لابن تيمية في “مجموع الفتاوى” وفي “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح” ما صحح كثيرا من أخطائنا وأزال كثيرا من أوهامنا وجهالاتنا فكان شيخ الإسلام بحق، وقرأنا للماوردي في “الأحكام السلطانية” فوجدناه نعم العالم المجيد والشيخ المحيط، وقرأنا لابن حزم الأندلسي في “الفيصل في الملل والأهواء والنحل” ما كون لدينا ملكة علمية ونقدية في حوارنا مع الآخر، وقرأنا لأبي حامد الغزالي في “إحياء علوم الدين” ما أحيا موات قلوبنا، وفي “الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل” ما ساعدنا على تمييز الدين المنزل من الدين المحرف والإله الديان من إله الأوثان.

وقرأنا أيضا لثلة من العلماء المتأخرين فوجدنا في كتبهم ما يدلنا على الحق ويرشدنا إلى الحقيقة، قرأنا لمشايخ الأزهر ومشايخ الزيتونة ومشايخ تلمسان ومشايخ بجاية في عصورها الذهبية ما أعاننا على تحسين خطابنا الديني، قرأنا لعبد الله الشرقاوي في “حاشية على شرح التحرير” و”التحفة البهية في طبقات الشافعية” ما أتحف عقولنا بما وقفنا عليه من لآلئ القول وبدائع التأويل، وقرأنا لمحمد مصطفى المراغي من لطائف التفسير ما افتقدناه في كتب المفسرين المتقدمين، وقرأنا لمصطفى عبد الرازق في “التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية” ما أزال عن عقولنا كثيرا من الأفكار الصنمية التي جلبتها الفلسفة اليونانية، وقرأنا لمحمد الخضر حسين في “حياة اللغة العربية” ما أحيا موات ألسنتنا، وقرأنا للشيخ محمد الغزالي ما حببنا في الوسطية الإسلامية وكره إلينا كل دعوى علمانية أو حداثية، وقرأنا للشيخ محمد متولي الشعراوي من الآراء الصوفية ما جعلنا نميز بين الشطحات الصوفية وبين الفتوحات الربانية والإشراقات النفسية، وقرأنا للشيخ محمد بن علي السنوسي ما جعلنا أكثر ارتباطا بعقيدة التوحيد وأشد بغضا لما عداها من عقائد التثليث والتجسيد.

وقرأنا لعلمائنا الجزائريين ما جعلنا أكثر ارتباطا بمرجعيتنا الدينية والوطنية، قرأنا للشيخ عبد الحميد بن باديس في “مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير” و”مجالس التذكير من حديث البشير النذير” ما جعلنا نميز بين السلفية الحقيقية والسلفية الدخيلة، بين ما تركه السلف وبين ما ابتدعه الخلف، وقرأنا للشيخ مبارك الميلي في “تاريخ الجزائر في القديم والحديث” ما جعلنا أكثر تمسكا بالجزائر وبتاريخها الممتد في آباد الزمن، وقرأنا لأحمد توفيق المدني في “هذه هي الجزائر” فأدركنا قيمة ومكانة الوطن الذي نعيش فيه، وقرأنا لأحمد حماني في “صراع بين السنة والبدعة” فوقفنا على فضائل السنة ومخاطر البدعة، وقرأنا لمالك بن نبي فأدركنا أن البدايات الأولى للحضارة الإنسانية إسلامية وأنه لا يمكن لهذه الحضارة أن تعود إلا إذا استعاد العقل الإسلامي عافيته وتألقه الذي صنع حضارة أطراها الغربيون كما فعلت المستشرقة الألمانية “زيغريد هونكه” في كتابها: “شمس العرب تسطع على الغرب”.

كل الأسماء العلمية التي ذكرتها خلدت اسمها في تاريخ العلم بما حباها الله من فكر متقد فكانت بذلك مشيخة علمية صنعها العلم ولا شيء غير العلم، ثم أتى على الأمة العربية والإسلامية زمان انزوى فيه العارفون وظهر فيه الجاهلون، زمان يسود فيه الرويبضة ويتحدث في شأن العامة وفي كل شأن من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير، لقد نال هذه الحظوة ليس لأنه جمع من العلوم ما عجز عنه الآخرون ولكن لأنه وجد إعلاما يشد أزره ويواري سوأته العلمية ويظهره إلى الناس بأنه الحافظ  المجيد المحيط الذي لا يدانيه أحد في العلم ولا يضاهيه أحد في الفهم، يتحدث في شؤون الفتوى وشؤون السياسة وشؤون الديانة وشؤون العباد وشؤون الاقتصاد، وتراه في كل المجالس كأنه ملح الأرض.

أقول وبكل أسف إن مشيخة الإعلام قد أصبحت ظاهرة مقلقة في المجتمعات العربية والإسلامية ولا بد من أن يتحرك الضمير النخبوي لكي يحرر المنابر الإعلامية من تفاهاتهم وسفاهاتهم التي نعدها سببا في القطيعة القائمة بين الإعلام العربي والإسلامي والمشاهد العربي، هذا الأخير الذي يجد نفسه مكرها على رؤية هذه الوجوه رغم أنه على يقين من أنه ليس في كنانتها ما تقدّمه له من العلم بأي وجه من الوجوه.

يمكننا أن ننظر في واقع إعلامنا العربي والإسلامي لنكتشف حقيقة صادمة ومؤسفة وهي أن الرداءة تكرس داخل دواليب هذا الإعلام الذي غزاه أشباه المفتين والمفكرين الذين لا يتورع أحدهم عن الخوض في كل الموضوعات ببضاعة مزجاة ومن غير بضاعة في أغلب الأحيان.

تعرض بعض القنوات العربية والإسلامية بين الفينة والأخرى على سبيل المثال حلقة للحديث عن حوار الحضارات والأديان فيحفزنا هذا لمشاهدتها والاستفادة منها ولكننا نصاب بخيبة أمل كبيرة لأول وهلة حينما نجد أن من دعوا إليها لا صلة لهم بحوار الحضارات والأديان، فبعضهم متخصصون في التصوف وبعضهم متخصصون في الاقتصاد ولو أنهم تحدثوا في اختصاصهم لأفادوا، ولكن لا ينتظر منهم فيما ليس من اختصاصهم إفادة المشاهد ولا حتى إفادة أنفسهم لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

هناك مشايخ صنعهم الإعلام تراهم يتصدرون مجالس الفتوى ومجالس الفكر، يحتكرون الكلمة ويشاهدهم المشاهدون وهم لهم كارهون، مشايخ لم يتخرج أكثرهم من الكتاتيب والمحاريب ولا تعرف لأكثرهم سيرة علمية وفكرية، لم يجتهدوا في الوصول إلى القمة ولكنهم وجدوا أنفسهم في القمة، يسندهم في ذلك الإعلام ويشد أزرهم بعض محبيهم من العوام. لقد آن الأوان أن يعود للعلم سلطانه وللدين أهله ممن ورد ذكرهم في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”.

مقالات ذات صلة