الرأي

تدريس تاريخ العلوم: ليس هيّنًا!

من المسائل العويصة التي يعاني منها نظام التعليم في الجزائر أن تقرر الجامعة إدراج مقررات ضمن نظام “ل. م. د.” لم تكن واردة في السابق دون التأكد من أن هناك من تخصص فيها وتخرج بشهادة تمكّنه من تدريسها. ولعل القارئ يستغرب إن أشرنا إلى أن من تلك المقررات مقررا يبدو في المتناول، وهو مقرر تاريخ العلوم الموجه لطلبة السنة الأولى وأحيانا نجده في سنوات الماستر العلمي.

الكل هواة

تظهر هذه المادة بسيطة المضمون وسهلة التدريس إذ أن الكثير من الزملاء يتصورون بأن أي أستاذ لفرع من فروع الفيزياء أو الرياضيات أو غيرها من العلوم لا بد أنه يلمّ -إضافة إلى التمكّن من اختصاصه- بتاريخ المادة التي يدرسّها، وأنه قادر على تبليغه للطلبة! بينما نعلم جميعا أن أساتذة العلوم إن ألموا بجانب من جوانب التاريخ فهذا راجع لاهتمام شخصي وليس راجعا إلى كونهم تعلموا تاريخ العلوم كمادة عندما كانوا طلبة. وحتى إن درسُوه كمادة فذلك تم ضمن مقرر من مجموعة مقررات أخرى…
وبالتالي فمعارف جلّ أستاذ الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء في مجال التاريخ تظل منقوصة وتحتاج إلى تعمق. ومن ثمّ فمن الصعب تكليفهم بتولي تدريس مقرر تاريخ العلوم. وخلاصة القول إن الأمر يحتاج إلى أن يتخصص المرء في تاريخ العلوم إن أراد تدريسه… وإلا صُنِّف من الهواة وليس من الممتهنين.
ومن جهة أخرى، فنظرة التعليمية الحديثة لتاريخ العلوم تؤكد أنه مادة لا بد من تدريسها وتوظيفها في سبيل استيعاب المادة العلمية من قبل التلاميذ والطلبة.
ولمناقشة مثل هذه المواضيع يعكف الأستاذ أحمد بن جدو، المنتسب لكلية العلوم لجامعة سطيف، منذ عدة سنوات على تنظيم أيام دراسية دورية. وهكذا نظمت في آخر الأسبوع الماضي سلسلة من المحاضرات تَقدَّمها الأستاذ المتقاعد يوسف عتيق حيث تناول تدريس تاريخ الرياضيات في عدد من بلدان العالم، مثل الصين وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. أما الأستاذ أَلكس أسبلين Esbelin (جامعة كلارمو-أوفارنيه الفرنسية) فقد ركّز على كيفية توظيف تاريخ الرياضيات في تكوين الأساتذة في مستوى الماستر. كما تطرق الأستاذ أحمد عباسي من جامعة الجلفة للعلاقة بين التعليمية والتاريخ,
وشارك الأستاذ مخلوف حمودي، من جامعة الجزائر 1، بمحاضرة حول البعد البيداغوجي لتاريخ العلوم. ورافع الأستاذ أحمد بوسنة (جامعة سطيف) من أجل تأسيس فلسفة جديدة لتاريخ العلوم. ومن بين أفضل علماء الجزائر المولودين بالعاصمة خلال القرن السادس عشر ميلادي، ابن حمزة الجزائري، الذي ذاع صيته عندما كان مدرّسا للرياضيات في الحرم المكي. وقد عرّف بمؤلفته مقتدر زروقي، أستاذ تاريخ العلوم بالمدرسة العليا للأساتذة-القبة. وساهم مفتش التعليم المتقاعد عمار بن تركي في تقديم إثراءات وإضافات عديدة ضمن التعقيبات على مختلف المداخلات.

التوصيات

ومن بين التوصيات التي ارتآها المنظمون تمديد فترة هذه الورشة في الدورات القادمة، وإشراك وزارة التربية الوطنية كي تعمّ الفائدة ويستفيد منها سلك التعليم، وكذا إشراك مختصين من البلدان المجاورة.
والجدير بالذكر أن بعض الخبراء يعتبرون أن المجتمع المعاصر يبالغ في الاهتمام باكتساب المعارف مهملاً عموما التأمل في ذات المعرفة. وأحسن دليل على ذلك في نظرهم هو كيفية تصميمنا للمناهج الدراسية ولنظم التقييم المدرسي على جميع المستويات.
والحقيقة أن هناك خطأ يميّز اليوم “عصر العلم”، وهذا الخطأ يتمثل في الخلط بين المعرفة التقنية والمعرفة العلمية. وقد نتج عن ذلك زيغ جعل البعض يميلون إلى تقديس ما يعتقدونه علما، وأدى بالبعض الآخر إلى عكس ذلك حيث صاروا يكنّون احتقارا للمعرفة التي تبدو، في رأيهم، مبتذلة ولا تحمل بُعدا آخر سوى البعد المادي. وإذا كانت هناك تباينات كبيرة في آراء خبراء المناهج حول الميولات السابقة الذكر فإنهم يجمعون بأن توظيف تاريخ العلوم عنصر أساسي في عملية التعلّم مهما كان اتجاهها.
والواقع أن التلميذ في المدرسة يتعلم بشكل مكثف عصارة أعمال، دام إنجازها آلاف السنين، من قبل العلماء والمبدعين، وذلك بعد أن تم صقلها بكل الوسائل المتاحة. وفي هذا السياق تحاول المناهج التعليمية إعطاء صورة تقريبية لهذا الكم الهائل من المعارف.
أما دور تاريخ العلوم في هذا الموضوع فيتمثل في تسهيل مهمة مصمم البرامج ومدرّسيها حيث يبحث من خلال الوثائق التراثية والمخطوطات كيف حدث تقدم أي علم والمراحل التي مرّ بها والأشواط التي قطعها. ولكي يتم ذلك على أحسن وجه لا بد أن يكون مؤرخ العلوم ومدرّسها مختصا أيضا في العلوم نفسها، وملمًا بها إلماما وافيًا للقيام بهذه المهمة الدقيقة التي تستدعي مقارنات متعددة الأشكال وتدقيقات في المضامين والتعرف على علاقات العلماء فيما بينهم خلال الحقب التاريخية المتعاقبة.
فمتى ستغطي جامعتنا هذا العجز؟ العجز في توفير الإطارات اللازمة لتدريس تاريخ العلوم لطلابنا؟ والسؤال يطرح أيضا على مستوى المختصين : ما هي أنجع السبل لتدريس هذا العلم حتى يكون رافدا قويا وداعما للتلميذ والطالب في باب استيعاب المادة العلمية؟

مقالات ذات صلة