-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
هذه خلفيات مشروع قرارها بوقف إطلاق النار في غزة

تشبث الجزائر.. تعنت واشنطن وخيار الآخرين

تشبث الجزائر.. تعنت واشنطن وخيار الآخرين
أرشيف

توالت التحليلات والتعاليق قبل وبعد التصويت على مشروع القرار الذي قدمته الجزائر إلى مجلس الأمن والذي تضمن منذ صيغته الأولى المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار في غزة التي تتعرض لإبادة جماعية على يد المحتل الصهيوني، فمنهم من افتخر بموقف الجزائر واعتبره منبثقا من مواقفها التاريخية ونصرة للقضية الفلسطينية وإعلاء لصوت الأمة العربية والإسلامية ومنهم من وصفه بالجريء والمغامر أمام عظمة أمريكا ومنهم من اعتبره غير مجد، كون واشنطن تتحكم في دواليب مجلس الأمن ولمساندتها للكيان الصهيوني غير المشروطة وغير المنقطعة.
وذهبت بعض القراءات إلى أعمق من ذلك، لتتساءل عمّا يفسر تصرف الجزائر وتعاملها مع هذا الموقف، وهل كان لها أن تتعامل بطريقة مختلفة، وما سبب تعنت أمريكا رغم أن تكلفة فيتو كهذا باهظة داخليا وخارجيا، خاصة بالنظر إلى مواقف بقية أعضاء مجلس الأمن، وما هي القراءات الممكنة لخيار البقية في التعامل مع هذا الملف؟

الجزائر مع فلسطين.. قناعة راسخة بعدالة القضية الأم
إن موقف الجزائر في التعامل داخل قاعة مجلس الأمن وخارجها ليس بالغريب عنها. فالسائل عن موقفها حول فلسطين عادة ما يتلقى نفس الجواب منذ عهد الراحل هواري بومدين الذي خلده التاريخ: “الجزائر مع فلسطين، ظالمة أو مظلومة”. وهو نهج سارت عليه دائما وأبدا في نصرة القضية الفلسطينية حتى نيل استقلالها ولم تحد عنه حتى في أحلك مراحل تاريخها، وهو نفس النهج الذي اتبعته الجزائر عند صياغة أولوياتها بمجلس الأمن، حيث جعلت القضية الأم على رأسها.
وعلى هذا النحو، كان الرئيس عبد المجيد تبون أول من دعا إلى متابعة الكيان الصهيوني أمام القضاء الدولي عقب اندلاع مسلسل المجازر ضد غزة.
كما أنه، وفي نفس الوقت الذي باركت فيه الجزائر جهود جنوب إفريقيا التي كللت بالنجاح أمام محكمة العدل الدولية، أمر رئيس الجمهورية بعثة الجزائر بنيويورك بالتحرك فورا على مستوى مجلس الأمن لإعطاء قوة إلزامية لقرار محكمة العدل الدولية، وهو أمر لم تخفه الجزائر بل نشرته للعلن في حين كان البعض قد يفضل استشارة “الأصدقاء” مسبقا، حتى لا نقول ينتظر تلقي الضوء الأخضر ممن يتحكم في تفاصيل العملية السياسية الدولية.
وعليه، تقدمت الجزائر بمشروع قرارها بعد مشاورات حثيثة مع جنوب إفريقيا وفلسطين والدول العربية وغيرها، وبالنظر إلى مختلف التعديلات التي طرأت على المشروع الأولي، يظهر جليا أن الجزائر، ومنذ البداية، كانت على استعداد للتفاوض حول بعض النقاط بيد أن المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار لم يكن قابلا للنقاش رغم كل الضغوطات التي لابد أنها تعرضت لها.
هذا كان موقف الجزائر الذي لم يتضاد مع واشنطن بناء على حسابات استراتيجية أو مصالح ضيقة ولكن لاعتبارات تاريخية وعقائدية وقناعات راسخة، أملت على السلطات الجزائرية تعاملها مع الوضع كما أملت اعتبارات أخرى على واشنطن موقفها.

حمل القلم.. بين التشريف والتكليف
لقد كانت الجزائر وحدها حامل قلم مشروع القرار هذا، وهو ما يعني أنها الوحيدة المخولة بكتابة نصه الأولي وإدخال التعديلات عليه، أما باقي أعضاء مجلس الأمن فلهم أن يعبروا عن مواقفهم حول كل جزئية من المشروع خلال المفاوضات، وكان على الجزائر تحمل مسؤولية الفصل بين المشاغل التي يمكن أن تضمّنها في مشروع قرارها وتلك التي تقرر عدم الأخذ بها.
إن وضع حامل القلم، وإن كان تشريفا لصاحبه ويخوله صلاحية صياغة النص، فهو تكليف ثقيل إذ أن جميع الضغوطات تقع على عاتقه، وقد تكون هذه الضغوطات على مستوى الوفد المفاوض في نيويورك أو على مستوى العواصم.
ومن هنا يظهر جليا حجم الضغوطات التي كانت واشنطن تمارسها على الجزائر، وهو ما يفسر الاتصالات التي تلقاها وزير الخارجية أحمد عطّاف من نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن الذي ظن أن ضغطه على أعلى المستويات قد يثني موقف الجزائر، لكن كان للجزائر صوت واحد وموقف ثابت وهو المعروف للعلن.
ويمكن فهم هذا الضغط أكثر بالنظر إلى تصريحات الصحافة العربية التي روجت لقرابة شهر بأكمله لمشروع القرار “العربي”، والتي نقلت يوم التصويت اعتراض واشنطن على مشروع القرار “الجزائري”، و”الحديث قياس”.

هل كان للجزائر التصرف بطريقة مغايرة؟
كان تصرف الجزائر منذ البداية منبثقا من تاريخها النضالي ومواقفها الثابتة التي ما فتئت يوما تنتصر للقضايا العادلة في العالم حتى سميت “قبلة الثوار”. فما كان للجزائر التي عملت ولا تزال على استكمال تحرير إفريقيا من براثن الاستعمار، والتي طردت نظام الفصل العنصري من الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي أعلنت من أرضها قيام دولة فلسطين الحرة، أن تدير وجهها هذه المرة وهي حامل لواء العرب بمجلس الأمن.
كما أن مسار المفاوضات ومواقفها حول كل جزئية في القرار لم تكن تمليه حسابات ضيقة أو مصالح خفية وهو ما يتجلى في تصريحات العديد من أعضاء مجلس الأمن الذين ثمنوا، خلال جلسة التصويت على مشروع القرار، الدور الجزائري والمشروع المقدم وكذا الشفافية التي اتسم بها مسار المفاوضات.
إضافة إلى هذا، صرح ممثل الجزائر في الأمم المتحدة السفير عمار بن جامع، عقب التصويت أن الجزائر”ستعود لتدق أبواب مجلس الأمن”، وهو ما يدل على إيمان الجزائر الراسخ بعدالة القضية وعدالة المقترح.
يمكن للداري بثوابت مواقف الجزائر أن يدرك بسهولة أنها لم تكن لتتصرف بطريقة مغايرة لو أعاد الزمن نفسه، ولو كانت دولة أخرى في مقعد الجزائر، خاصة إن كانت من مناصري التطبيع، ما كان مصير فكرة كهذه أمام إصرار كهذا من واشنطن وحلفائها.

تعنت واشنطن وعزلتها وخيار البقية
إن دعم واشنطن اللامشروط لحليفتها إسرائيل لم يتزحزح منذ خلق الكيان في قلب المنطقة العربية ولما يزل يتعاظم نتيجة الضغط الذي يمارسه اللوبي الصهيوني الذي، وإن تغير تأثيره في قرارات أمريكا بتغير الإدارات، فهو يتباين بين سيئ وأسوإ تجاه فلسطين.
لكن الوضع الحالي وفظاعة جرائم المحتل جعلت مهمة مؤيديه أصعب. ذلك أن ما يحدث في حق فلسطين تعارضه جميع شعوب العالم، بما فيها في داخل الولايات المتحدة الأمريكية المقبلة على انتخابات رئاسية سيكون للصوت الانتخابي العربي والإسلامي فيها دوره الحاسم في رسم المشهد الانتخابي، إذ أنه أصبح من المعلوم لمن يتابع الشأن الأمريكي أن حظوظ فوز بايدن بعهدة ثانية مستحيلة في حال خسر ولاية ميشيغان. هذه الولاية التي قد يحسم الصوت المسلم كفتها المتأرجحة لأحد المتصارعين على قيادة القوة الأولى عالميا.
وهنا برزت حنكة وفطنة المفاوض الجزائري الذي استطاع أن يتعامل مع الضغط والوقت والمستجدات المتوالية والحسابات الجيوستراتيجية، ليقدم في آخر المطاف، وبعد العديد من التعديلات، نصا استطاع أن يحصد تأييد ثلاثة عشر صوتا، كما استطاع أن يضع لندن أمام خيار صعب بين تأييد حليفتها واشنطن والانصياع إلى مساندة الحق، فاختارت الامتناع عن التصويت تاركة واشنطن معزولة بقرارها في استعمال الفيتو.
وما زاد من مهمة أمريكا تعقيدا اتحاد المجموعة العربية خلف الموقف الجزائري، والذي عبر عنه بيانها الصحفي الصادر عشية التصويت. بل وذهبت مصر وقطر إلى أبعد من هذا حينما صرح ممثلاها بأن القرار الجزائري لا يؤثر بتاتا على المفاوضات الجارية، وهو ما أدى إلى تهاوي بنيان الطرح الأمريكي، المبني على زعم حماية المسار التفاوضي غير الرسمي.
وأمام عزلتها هذه، وإصرار السلطات الجزائرية على المضي قدما بمشروع قرارها، تقدمت واشنطن في آخر لحظة، وكخطوة تدل أكثر على اختلاط أوراقها، بمشروع قرار مشابه للنص الجزائري، صممته على مقاسها ومقاس حليفتها، حتى تداري به عار مساندتها لجرائم الصهاينة ضد شعب أعزل ذنبه الوحيد فلسطينيته. حيث تضمن المشروع الأولي لهذا القرار الأمريكي إدانة لحماس، ووقفا مشروطا لإطلاق النار.
ومن الواضح أن المشروع الأمريكي لم يكن منافسا للمشروع الجزائري، بل كان يهدف لكبح مجلس الأمن عن الاضطلاع بدوره، من خلال إطالة أمد المفاوضات، حتى تمنح الفرصة لناتنياهو للمضي في مخططاته والضغط أكثر في ملف الأسرى.
وعليه، كان جواب الجزائر بعد التصويت على القرار صاعقا: “أن الجزائر ستعود، باسم الأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم، ومعها أرواح الآلاف من الأبرياء.. لتطالب بوقف حمام الدم في فلسطين.. حتى يتحمل المجلس كامل مسؤولياته ويدعو لوقف إطلاق النار”. وهو جواب أثلج صدور الشعوب العربية برمتها التي لم تعهد للعضو العربي بمجلس الأمن عزيمة كهذه بل كانت تظن أن قبوله بإدانة حماس ونعتها بالإرهاب أمر حتمي لا مناص منه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!