-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تطبيقات الشورى في عهد الملك العادل نور الدين محمود الزنكي (2)

تطبيقات الشورى في عهد الملك العادل نور الدين محمود الزنكي (2)

تكلمنا في مقال سابق عن تطبيقات الشورى في عهد الملك العادل نور محمود الزنكي، وبدأت المقال بالحديث المختصر حول معالم التجديد في عهد نور الزنكي؛ ومنها تفعيل مبدأ الشورى وضربنا مثالاً عن تطبيق مبدأ الشورى في القضايا العامة في عهده، وفي هذا المقال نتابع الحديث حول الأمثلة العملية لتطبيقات الشورى في عهد نور الدين الزنكي، ومنها:

إقامة المجالس المتخصصة:

كان مجلسُه ندوةً كبيرةً يجتمعُ إليها العلماءُ والفقهاءُ للبحث والنظر. (الصلابي، الدولة الزنكية، ص 255)

ولم تكن المناظراتُ التي شهدتها مجالسُه تزجيةً للوقت، وتخريجاً نظرياً للفروع على الأصول، وترفاً فكرياً، إنّما كانت نشاطاً جاداً من أجل مجابهةِ المشكلاتِ والتجارب المتجددة المتغيرة بالحلول المستمدة من شريعة الإسلام وفقهها الواسع الكبير، ما دام الرجل يسعى إلى إعادة صياغة الحياة في ميادينها كافة، وعلى مدى مساحاتها، بما ينسجمُ وعقيدةُ الإسلام ورؤياه لموقع الإنسان في العالم، ومن ثَمَّ فإنَّ ندواتٍ كهذه أشبه بمجالس أو «لجان برلمانية» متخصصة تجتمعُ بين الحين والآخر لحلّ مشكلةٍ ما، أو استمداد لتشريع، أو إقرار لقانون.

ونحن نذكرُ هنا ذلك الاجتماعُ الموسّع الذي مرّ ذكره مع حشد من العلماء الذين اختيروا لكي يمثلوا المذاهبَ الفقهية كافّةً من أجل النظر في عددٍ من قضايا الوقت والمصالح العامة. (خليل، نورد الدين محمود، ص 133)

وقد شبه ابنُ الأثير مجلسه بمجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم: مجلس حلم وحياء، لا تؤبنُ فيه الحُرُمُ، ولا يُذْكَرُ فيه إلا العلم والدين وأحوالُ الصالحين، والمشورةُ في أمرِ الجهاد، وقصد بلاد العدو، ولا يتعدّى هذا. (ابن الأثير، الباهر، ص 173)

وقد بين ابن الأثير في رواية أخرى تحدّثَ فيها عن قيام نور الدين باستحضار عدد من الفقهاء، واستفتاهم في أخذ ما يحلُّ له من الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، فأخذ ما أفتوه بحلّه، ولم يتعدّه إلى غيره البتة، فما يصدر عن ممثلي الشريعة الغراء يتوجّبُ أن يكون ملزماً لكل إنسان، سواء كان في القمة أم في القاعدة، وقولُهم هو القول الفصل، لأنّ نور الدين ما كان يريدُ أن يمارس الاستشارات القانونية المزدوجة ليبرز للناس أنّه لا يقدم على عمل إلا بعد الاطلاع على رأي قادة فكرهم ومشرّعي قوانينهم، ويسعى في الخفاء إلى تنفيذ ما كان قد اعتزمه مسبقاً، مهما كانت درجةُ تناقضه مع طروحات اللجان الاستشارية والتشريعية والبرلمانية التي ستكونُ بمثابة الرداء الخارجي الذي يحمي في داخله مضامين وممارساتٍ لا تمتد إلى لون الرداء ونسيجه في شيء. (خليل، نور الدين محمود، ص 134)

وكان يكاتب العلماء للاستشارة، فقد ذكر ابن الجوزي أنّ نور الدين كاتبه مراراً، وكان نور الدين يسأل العلماء والفقهاء عما يُشكل عليه من الأمور الغامضة، وكان يقول لمسشاريه من العلماء والفقهاء: «باللهِ انظروا أيَّ شيءٍ علمتموه من أبواب البر والخير دلوّنا عليه، وأشركونا في الثواب».

فقال له شرف الدين بن أبي عصرون: واللهِ ما ترك المولى شيئاً من أبواب البر إلا وقد فعله، ولم يترك لأحدٍ بعدَه فعلَ خيرٍ إلا وقد سبقه إليه. (ابن الجوزي، المنتظم، ج10/ص249)

لقد مارسَ الملك العادل نور الدين محمود الشورى على أسس صحيحة في دولته، وكانت له مجالس شورية يلتقي فيها القادة العسكريون والإداريون مع العلماء والفقهاء، فكل حاكم يريدُ لحكمه أن يستمرّ، ولنظام دولته أن يستقرَّ، عليه أن يكون حريصاً على الإلمام بحقيقة الأوضاع ببلاده، والشورى خيرُ سبيلٍ لتحقيق هذه الغاية.

ومع تطور أمور الحياة لا غنى لأمةٍ تريدُ أن تنهض عن مبدأ الشورى، ولا مانع من ضبط ممارسة الشورى وفقَ نظام أو منشور أو قانون يعرف فيه وليٌّ الأمر حدودَ ما ينبغي أن يشاور فيه ومتى وكيف؟ وتعرفُ الأمةُ حدودَ ما تستشار فيه ومتى؟ وكيف؟ لأنَّ الشكلَ الذي تتم به الشورى ليس مصبوباً في قالب حديدي. (الصلابي، فقه النصر والتمكين، ص 464)

فأشكالُ الشورى وأساليبُ تطبيقها ووسائلُ تحقيقها وإجراءاتها ليست من قبيل العقائد، وليست من القواعد الشرعية المُحْكُمةِ التي يجبُ التزامها بصورة واحدة في كل العصور والأزمنة، وإنّما هي متروكةٌ للتحري والاجتهاد والبحث والاختيار.

أمّا أصل الشورى فإنّه من قبيل المُحْكَمِ الثابت الذي لا يجوزُ تجاهله أو إهماله، لأنَّ الشورى في جميع الأزمنة مفيدةٌ ومجديةٌ، والدكتاتورية أو حكمُ الفرد في جميع الأمكنة والأزمنة كريهةٌ ومخرّبةٌ. (الصلابي، الدولة الزنكية، ص 257)

المراجع:

· الدولة الزنكية، د. علي محمد الصلابي.

· نور الدين محمود: الرجل والتجربة للدكتور عماد الدين خليل.

· التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، ابن الأثير.

· المنتظم، أبو الفرج ابن الجوزي.

· فقه النصر والتمكين، د. علي محمد الصلابي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!