الرأي

تطوير البحث العلمي بميزانيات خاوية!

من عرف لذة طلب العلم وأدمن القراءة العلمية والمطالعة الفكرية والثقافية والجلوس إلى ركاب العلماء والشيوخ من صغره، ودرج وكبر عليهما سيجد نفسه لا محالة يوما باحثا صغيرا يافعا بالنور والعلم، وسرعان ما يكبر شيئا فشيئا، حتى تتحول حياته كلها إلى ملاحظات علمية مقصودة، وتساؤلات إشكالية، وفرضيات استكشافية، وتطلعات مسحية واستقرائية، وبراهين وأدلة وشواهد، ولا يهنأ له بال، ولا يطعم لذة النوم وهو يقلب النظر في تلك المسألة، أو ذلك الإشكال، ونحوه.. ويغدو في حركة بحث وتنقيب واكتشاف دائمة ودائبة سواد ليله وبياض نهاره، ولا يرتاح له ضميرٌ حتى يستقرّ على حلٍّ علمي لكل ما يصادفه في الحياة. وينطلق من إسار الزمان والمكان والإمكان البحثي لتشدو تجربته العلمية والبحثية مفيدا أمَّتَه ووطنه والإنسانية جمعاء.

وعلى هذا النهج والمنهج العلمي القويم ينشأ الباحثون والكتَّاب والمخترعون حتى يلتحقوا بالجامعة طلبةً في أقسام الدراسات العليا، فأساتذة مبتدئين، فمبرزين، فأعلاما مشهورين في حقل العلم والبحث العلمي، وهو ما عليه الأمم السويّة والأفراد الأسوياء ولو كانوا يعيشون في بيئات متخلفة.. لا تملك من وسائل وأدوات وإمكانات البحث العلمي المالية والمادية والقانونية والمعنوية شيئا. ومع كل هذا فتراهم مسكونين بتلك المعالم الثقافية العلمية والبحثية التي حفرت أخاديد حياتهم ونفسياتهم منذ الطفولة، فيستمرون في البحث بالرغم من كل العقبات والصعاب والتحديات..

غير أن الأمر يكون مختلفا عندما تكون بلده وموطنه الأصلي غنيا بل ثريا بالموارد المالية والمادية.. ولا ينال شيئا من تلك الموارد في سبيل تطوير البحث العلمي، ثم يطلبون منه تطوير البحث العلمي بالفراغ وبالشهادات الشرفية التي لا تُصرف في أي مصرف، يعينه على متطلبات الحياة القاسية والباهظة، وبالميزانيات الخاوية، ولعلني أضرب أمثلة عما عانيته وأعانيه في مسألة البحث العلمي الذي لا مقابل له في بلادنا، والذي يجب أن يتنبه له أولو الأمر، ويخرجوا من الخطابات الدعائية الجوفاء عن البحث العلمي وتطويره والنهضة به، ولعلني أسوق لكم نتفا من هذه المعاناة الواقعية القريبة العهد، ولعله منها:

1- مناقشات رسائل الدكتوراه خارج الولاية:

فقد أُرسِلتْ لي رسالة دكتوراه -دون إذني أولا وبها سبعمائة وثلاث صفحات 703 ص- من جامعة تقع في الشمال الشرقي للصحراء الجزائرية، وتبعد عن مقر سكناي بباتنة (350 كلم)، فذهبت قبل يوم المناقشة بيوم في الصباح الباكر ودفعت أجرة النقل ذهابا وإيابا في سيارات الأجرة، ولما وصلت اتصلت بنائب العميد المكلف بالدراسات العليا ليلتقوني ويوصلوني إلى مقر الإقامة، ولما اتصلت بهم، قالوا لي “نحن مشغولون وعليك أن تأخذ سيارة أجرة نقل حضري توصلك إلى الفندق المزمع الإقامة فيه”، وتألمت كثيرا من هذا الجواب، لاسيما أن هذه الجامعة لما أرادت أن تفتح معهدا للعلوم الإسلامية سنة 2010م وضعوا اسمي وصفتي في ملف القبول لدى الوزارة، وكتبي تُدرَّس عندهم، ومسابقة الدكتوراه التي وضعوا فيها اسمي والتي أُجري الامتحان في إحدى مادّتيها من  كتابي الذي أرسلته إليهم إلكترونيا ليضعوه في الموقع بعد أن نفد الورقي منه.. وكدت أرجع ولكنني تريَّثت قليلا حتى جاءوني مساءً، وحضرت المناقشة في اليوم الموالي وأقمت ليلة ثانية، وانتظرت متأملا لعلهم يقولون لي شيئا له علاقة بالرسالة أو أجرة الطريق ولكنهم للأسف الشديد لم يفعلوها البتة، وعدت أدراجي فجر ذلك اليوم ولم يخسروا عليَّ إلاّ نصيحة لما صرتُ بعيدا عن مدينة ألف قبة وقبة ليبينوا لي المكان المناسب الذي تمرُّ منه الحافلة.. فشكرتهم بأدب واحترام لأننا حمّالو رسالة ولسنا تجارا، ولكن الأمر مادام متعلقا بالجامعة الجزائرية كمؤسسة رسمية حق لي أن أكتب شيئا عن هذه المهازل الجارية، ولاسيما أنهم ما دعوني منذ أن افتتحوا معهدهم هذا.

أين أجرتي عن مسافة (350 كم) والنقل الحضري مرتين والمقدرة بـ (3000) دينار جزائري؟ وأين أجرتي عن الرسالة المقدر بـ (21) ساعة إضافية، والتي أمضيتُ في قراءتها قراءة علمية ومنهجية شهرا كاملا؟ وأنا معروفٌ بأني من القلائل جدا ممن يقرأون الرسالة بكاملها من الجلدة إلى الجلدة ولا يأكلون المال الحرام، أهذا هو تطوير البحث العلمي يا وزير التعليم العالي؟ بالميزانيات الخاوية والمسؤولين اللامبالين؟

2 – التحكيم في المجلات على منصة (Asjp):

منذ أن كانت المجلات الجامعية ورقية وأنا أقرأ فيها الموضوعات وأُحكم فيها، ولما أخذت شكلها الرقمي مازلت أُحكم فيها، فقد حكمت منذ قرابة ثلاث سنوات أكثر من مئة مقال وبحث، ولم أنل سنتيما واحدا إلى اليوم، فهل تريدون تطوير البحث العلمي بغير مردود مالي يا وزير التعليم العالي؟

ولعلني أنقل إليكم تجربتي في النشر في دول الخليج العربي منذ سنة 1999م إلى اليوم، فقد كنت ومازلت أتقاضى عن كل مقال أحكمه مبلغ (150) دولار، وأذكر أن رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة كانت ستعقد مؤتمرين في العاصمتين الموريتانية والسنغالية وقد شاركت فيهما معها ببحثين، وقد قدمتْ لي مبلغ (400) دولار عن بحث نواق الشط، ومبلغ (150) دولار عن تلخيصي لبيان المؤتمر المنعقد بداكار لما لاحظت عليهم طول بياناتهم التي يكتبها إخواننا المصريون والسوريون، فأرسلوا إليّ البيان قبل انعقاد المؤتمر فلخّصته في أربع صفحات بعد أن كان في اثنتى عشرة صفحة. هذا عدا تذاكر السفر والإقامات في الدرجة الأولى والانتظار في المطارات ولو على الثالثة صباحا، لا كما فعل بنا من لنا فضلٌ على معهدهم!.

أما النشر في المجلات الخليجية (انظر المنشور فقط على موقع الكلية) فثمة من المجلات من تُكافئ من (110) دولار إلى (230) دولار، ولولا كثرة كتاباتي لما عرفت الدولار ولا الأورو الذي كان يأخذه من لا يستحقه في الجامعة باسم البحث العلمي الكاذب.

3- الملتقيات العلمية:

كنت منذ توظيفي بجامعة باتنة بكلية العلوم الإسلامية سنة 1994م قادما إليها مطرودا من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة بسبب مواقفي وكتاباتي وقناعاتي وجرأتي في الحق، وقبل جائحة كورونا أقرأ في كل ملتقى ثلاثين ملخصا، وعشرين دراسة وبحثا مقدما للملتقى، ولا أحظى حتى برئاسة جلسة، فضلا عن أن أتلقى المكافآت المالية، وقد روى لي أحد المحاسبين أن عميدا -هو فارٌّ خارج الوطن ورسالته هوامشها كلها مدلسة- كان يصرف تلك الساعات لمن حضر الملتقى ولمن من يحضر كمساعدات مالية من خزينة الدولة، أهكذا يتم تطوير البحث العلمي يا وزير التعليم العالي؟

ولعلني أنقل لكم يا سعادة الوزير كيف ولماذا وبكم يُكافئ إخواننا السعوديون الباحثين من أمثالي، فقد كتبت بحثا فيه (24) صفحة ونلت حَجَّة ممتازة الخدمات على حساب رابطة العالم الإسلامي سنة 1435هـ 2014م، وألقيت بحثي ومكافأة مالية عنه فضلا عن تذكرة السفر المحترمة.. أما نحن فقد حجَّت الشابة الزهوانية وأمين الزاوي وغيرهما على حساب رئيس الجمهورية السابق، طبعا مال الشعب الجزائري المحروم!

4- مشاريع (PRUF) الفضفاضة:

منذ التحاقي أكره البحث العلمي الذي تشرف عليه الإدارة الجامعية لعدة أسباب، لا لكون عائداتها قليلة جدا، بل لكثرة شروطها ومتطلباتها، وبيروقراطيتها في ملء الأوراق ومواقع الانترنيت.. ونحوها.. ولعلني أنقل لك أن ما أحصله من كتابة أربع مقالات أدبية أو ثقافية أو دينية لا يتعدى صفحات المقال خمس صفحات في مجلة كمجلة “الوعي الإسلامي” الكويتية في العام ما يعادل (600) دولار، أي ما يعادل (120) ألف دينار التي نأخذها بعد ملء قناطير من الأوراق على مشروع الـ        (PRUF) الذي كتبت فيه خمس مجلدات، فأي بحث علمي هذا تريدون تطويره بالميزانيات الخاوية يا وزير التعليم العالي؟ بل الأغرب من هذا كله فما أناله أنا هنا وأنا أعمل في جامعتي من كتاب علمي يصدر لي في سلسلة علمية في الخليج العربي يعادل ما بين (3000) دولار و (4500) دولار.. أي ما يعادل ثلاثة مشاريع بحثية هنا، فاتقوا الله يا أولي الأمر في الباحثين الحقيقيين.

5- مسابقات الدكتوراه:

شاركت طيلة حياتي العلمية في الكثير من مسابقات الماجستير ثم في الدكتوراه والله شهيد أني ما تدنست بدنس التزوير الذي مارسه غيري وأدخل الهمل والرعاع والسوقة إلى صفوف الأساتذة الجامعيين، ثم إننا في هذه المسابقات إما أن نحرس أو نضع الأسئلة ونصحح ونتابع سائر العمليات حتى فجر اليوم الموالي، ثم لا ننال جزاءً مقابل كل هذا العمل النظيف الذي لم ندخل فيه معطوبا أو ضنينا أو كسيحا إلى الجامعة!

وماذا نزيدك أيها الوزير المحترم؟ عن ديوان المطبوعات الجامعية الذي يطبع للخلان والأصحاب والشلل والأصدقاء.. أو عن الخدمات الاجتماعية التي نضع فيها الوثائق والملفات والكشوفات الطبية والتحاليل و.. ولا ننال شيئا.. ولعلني مللت وتعبت أختم بقول الشاعر العربي الحكيم:

أَرَبٌّ يبول الثُعْلُبان برأسه ++++++  ألاَ ذَلَ من بالتْ عليه الثعالبُ

أللهم اشهد أني بلّغت.

مقالات ذات صلة