الرأي

تنظيم “شباب محمد” أو “الفنية العسكرية”

“إنني أكتب عن هذه القضايا الحساسة من الشريعة والتاريخ ليعلم إخواننا المغامرون أننا لا يمكن أبدا أن نعبر إلى الحياة على جسر من الموت، وأن الحضارة لا تبنى على تلال من جماجم القتلى، وأن نهاية الغلو دائما نفق مظلم يساء فيه إلى حقائق الدين، وجمال هذه الشريعة الغراء”.

بدأ هذا التنظيم، الذي تبنى فكر الجهاد القائم على تغيير الأنظمة الحاكمة بالقوة حيث إنها في تصوّره “أنظمة كافرة” والواجب تغييرها بالقوة، في عام 1973على يد الدكتور صالح سرية, الفلسطيني الأصل الأردني الجنسية.

بدأ صالح سرية حياته ضابطا في منظمة التحرير الفلسطينية وارتبط بحزب التحرير الإسلامي الذي أنشأه الشيخ تقي الدين النبهاني سنة 1952، عاش سرية في الأردن بعد خروجه من حيفا التي نشأ فيها حتى مذابح سبتمبر 1970 وذهب إلى القاهرة وحصل على  الدكتوراه من جامعة عين شمس في التربية، ثم ما لبث أن غادرنا إلى بغداد، وكان على ما يبدو يعمل في إحدى جامعاتها، لكنه لم يلبث أن خرج منها هاربا بعد أن حُكم عليه غيابيا بالسجن بتهمة تكوين خلية لحزب التحرير ومناهضة نظام الحكم في بغداد، وعاد مرة أخرى إلى القاهرة وعمل بجامعة الدول العربية، وكوّن تنظيما خاصا من طلبة الفنية العسكرية، وطلبة جامعة القاهرة والأزهر. 

وفي عام 1974 وضع خطة لاقتحام كلية الفنية العسكرية والاستيلاء على أسلحة منها، تمهيدا للهجوم على اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي التي كان يخطب فيها الرئيس السادات، ثم يرغمونه على إعلان تنازله عن الحكم، وتم اكتشاف الأمر وإلقاء القبض على المشاركين، وحكم على صالح سرية وعلى كارم الأناضولي بالإعدام، وكان هذا الأخير من طلبة الكلية العسكرية، والمتهم الثاني في القضية بينما بُرِّأ معظم المشتركين وكانوا صغار السن. 

لقد جاء صالح سرية إلى مصر وهو يحمل أفكاره عن الإسلام والجهاد، ويحمل خططا خاصة عن فلسطين، وتحرير الأرض وإنهاء الاستعمار، واكتشف من خلال ما مرّ به من تجارب أنه لا سبيل إلى تحرير فلسطين إلا بإقامة نظام إسلامي في إحدى دول المواجهة، وكان بالفعل قد اتصل بعدة دول وأقام عدة علاقات مع المسؤولين بها، وحاول أن يفهم أو يبث أفكاره أو مبادئه إلى الحكام على هؤلاء المسؤولين، وطلب من دول المواجهة أن تضع تحت تصرفه لواء يحمل روح الاستشهاد، وقال إنه يستطيع أن يحرر فلسطين كلها بهذا اللواء، واتهمه الجميع بالجنون، مما دفعه إلى ترك منظمة التحرير بعد أن يئس من محاولة بث فكر الجهاد, وروح الاستشهاد لتحرير الأرض. 

وبدأ الشاب المتحمس في تشكيل عدد كبير من الخلايا, فيما عرفت بعد ذلك بتشكيل أو تنظيم الفنية العسكرية, واستطاع أن ينقل مبادئه إلى عديد الشباب الذي بدأ يتبعه بالفعل, وتشكلت  خلايا عديدة تتبع التنظيم، وكان أغلبها في الفنية العسكرية, ثم انضم إليه بعض طلاب كلية الطيران, وطلاب بعض الجامعات المصرية, واستطاع صالح سرية أن يوسع من نشاط تنظيمه، وبدأ في ترتيب الخلايا، خاصة أن قدرته على التحكم في الخلايا الخاصة بتنظيمه كانت سهلة لانحصار عديد الأفراد في مكان واحد، وهو أمر اتضحت أهميته فيما بعد، واستمرت الدعوة إلى فكر ومبادئ التنظيم، وبدأت الخلايا تتزايد، وظهر عددٌ منها في أماكن متفرقة. 

وقد حاولت الدكتورة هالة مصطفى في دراستها عن الحركات الإسلامية في مصر أن تربط بين انتماء الدكتور صالح سرية القديم لحزب التحرير، وبين توجهاته السياسية، وهذا في رأيي غير صحيح، فليس من مبادئ الحزب التوجه إلى العنف أو الانقلابات العسكرية، أو تكفير المجتمعات، بل يرى أن الوصول إلى الحكم إنما يتم عن طريق تثقيف الملايين من الناس تثقيفا جماعيا بالثقافة الإسلامية، وهذا يوجب عليه أن يتقدم أمام الجماهير، ويتصدى لمناقشتهم وأسئلتهم وشكوكهم ليظفر بتأييدهم حتى يقنعهم بالإسلام.

أفكار ومعتقدات تنظيم الفنية العسكرية

ألف الدكتور صالح سرية زعيم التنظيم رسالة صغيرة عنوانها “رسالة الإيمان” وهي الوثيقة الأساسية لمعرفة أفكار وتصورات الجماعة. 

تصف “رسالة الإيمان” نظام الحكم القائم  في بلدان المسلمين بقولها: “إن الحكم القائم في جميع بلاد الإسلام هو حكم كافر”. وتستند في ذلك إلى قاعدة (غلبة الأحكام) التي من خلالها يمكن تكفيرُ الدولة.

إن السبيل لتغيير هذه “الحكومات الكافرة” في نظر التنظيم هو “الجهاد في سبيل الله”.

وقد ترتب على هذا  موقف الجماعة من الديمقراطية والحزبية، اللتين وقفت منهما الجماعة موقفا رافضا.

ويأتي في هذا الإطار الموقف من مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة، وهذه لا ترفض الجماعة التعامل معها بشكل مطلق، وإنما تضع لها حدودا وشروطا. 

وتجدر الإشارة إلى أن الجماعة تحكم على المجتمعات القائمة بشكل عام بأنها في “مرحلة جاهلية”. 

“سنة الله في الغلو أنه قصير العمر لا تُكتب له الحياة ولا الديمومة أبدا، بل هو أحلامٌ وردية سرعان ما تذوب حتى وهج الحقيقة، وكذلك كانت نهاية هذا التنظيم الذي انتهى بصاحبه إلى حبل المشنقة بعد محاولة عبثية يائسة.”

كان الدكتور صالح سرية يرى أن الظروف الموضوعية لا تساعد على قيام ثورة شعبية إسلامية، لذلك قرّر اتِّباع أسلوب الانقلابات العسكرية، وبدأ أن النظام في رأيه ليست له جذور شعبية، فإن تصفية عناصره الرئيسية ستؤدي إلى انهياره، وكانت خطته تقوم على أساس القبض على عناصر النظام الرئيسية في أي اجتماع يجمع أكبر قدر منها، وكانت له كلمة مشهورة يقول فيها “لو كان لي مائة فرد يمتلكون إيمان أهل بدر لكان ذلك كافيا لإسقاط النظام”.

وكانت هذه الكلمة توضِّح مدى تمسُّكه بأن يكون كل من معه على استعداد للشهادة، واعتقاده الراسخ بأن ما يفعله هو أمر هام للغاية، ولكن للمغامرين أحلام لا تعيش إلا في رؤوسهم. 

 نهاية تنظيم الفنية العسكرية 

سنة الله في الغلو أنه قصير العمر لا تُكتب له الحياة ولا الديمومة أبدا، بل هو أحلامٌ وردية سرعان ما تذوب حتى وهج الحقيقة، وكذلك كانت نهاية هذا التنظيم الذي انتهى بصاحبه إلى حبل المشنقة بعد محاولة عبثية يائسة يضيق المقام عن الخوض في تفاصيلها، أما أتباعه فقد انفضُّوا بعد فترة السجن كل إلى سبيله، ومنهم من انضم إلى جماعات متطرفة أخرى، وكان صالح سرية قبل إعدامه قد عيَّن المدعو أحمد صالح قائدا للتنظيم من بعده، إلا أن صدور الحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما جعله يغيب خلف الأسوار، وقلّل كثيرا من سيطرته على الأعضاء المفرج عنهم الذين بدأوا في تكوين فكرهم الخاص. 

وليس لأتباعه آثارٌ فكرية أو مراجعات في شأن الجهاد وقضاياه يمكننا من خلالها الاطلاع على التطوّر الفكري لأعضائه.

ومع أنهم كانوا يكرّرون الكثير من النتائج التي توصل إليها سيد قطب، فإنهم في الحقيقة كما يقول الأستاذ عادل حمودة لم يكونوا يملكون أسلوبه الجذاب، ولا عيونه الناقدة، ولا ثقافته المتنوعة، ولا تجربته العريضة، ولا إيمانه بالتطوّر، ولا موهبته في ربط الدين بالعصر، إنهم باختصار صورة مهزوزة منه، كانت تحاول الالتصاق به رغم ما بينهما من البون الشاسع. 

مقالات ذات صلة