-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

توبة الثعالب!

سلطان بركاني
  • 752
  • 0
توبة الثعالب!

باب التوبة إلى الله مفتوح في كلّ شهر وكلّ يوم وكلّ لحظة، ولكنّه في رمضان مفتوح وخلفه منادٍ ينادي وحادٍ يحدو وروح تهفو ونفس تلين.. الباب مفتوح والخير كلّ الخير خلف باب التّوبة، لكن أيّ توبة؟ المولى -سبحانه- يريدها توبة صادقة بعدها الاستقامة والصلاح والإصلاح.. والشّيطان يخطّط لتكون “توبة انتقائية”! بعدها الرّوغان والتّمايل والتلكّؤ!
الشّيطان يسعى جاهدا ليصرفنا عن التوبة إلى الله في رمضان، ويشغلنا ببطوننا عن أرواحنا، وبالموائد والسّهرات عن الأرواح والطاعات، لكنّه إن وجدنا مصرّين على التّوبة، وعجز عن إبطائنا وثني عزائمنا؛ فهل يستسلم؟ لا، ولكنّه يسعى جاهدا ليجعل توبتنا انتقائية. كيف ذلك؟
مولانا -جلّ في علاه- يريد منّا أن نترك جميع الذّنوب والمعاصي ونبدأ حياة جديدة نبحث فيها عمّا يرضيه -سبحانه- فنفعل منه ما استطعنا، وعمّا يغضبه -سبحانه- فنتركه. يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه-: “الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب”.. ويقول السِّرِّي السَّقطي -رحمه الله تعالى-: “خمس من كن فيه فهو شجاع بطل: منها: استقامة على أمر الله ليس فيها روغان”.. هذا ما يريده منّا الرّحمن -سبحانه-، ولكنّ الشّيطان يريد لنا أن نتوب من بعض الذّنوب ونبقى مصرين على بعضها الآخر؛ نتوب -مثلا- من بعض الذّنوب التي تتعلّق بالظّاهر ونبقى مصرّين على الذّنوب الباطنة، أو نتوب ممّا يتعلّق بحقّ الله، ولا نتوب ممّا يتعلّق بحقوق النّاس!
الله -تعالى- لا يطلب منّا أن نتحوّل إلى ملائكة كرام بعد التّوبة، إنّما يريد منّا أن نتوب إليه من جميع الذّنوب، ونستعين به على فعل فرائضه واجتناب محارمه.. فلا يصحّ للعبد أن يتوب من بعض الكبائر والصغائر ويبقى مصرا على كبائر وصغائر أخرى كثيرة!
نحن في واقعنا، عندما نسمع الحديث عن التوبة، تنصرف أذهاننا إلى أولئك المعرضين الذين لا يصلّون، أو أولئك المتثاقلين الذين لا يؤمّون المساجد.. نعم هؤلاء معنيون بالتوبة، لأنّهم على منكر عظيم.. لكنّ التوبة ليست فقط من إضاعة الصّلاة.
التوبة تكون كذلك من هجر القرآن: ((وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)): التوبة من هجر تلاوته، ومن تلاوته سريعا من دون تدبّر ومحاولة للفهم، ومن هجر العمل به.
التوبة تكون كذلك من نسيان الحجّ؛ فالحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، وكلّ من ملك ما يكفي لحج بيت الله الحرام زائدا على حاجاته الضرورية فقد وجب عليه الحجّ، ووجب عليه أن يسجّل في القرعة، فإن تهاون ومات من غير أن يحجّ، مات على كبيرة من أعظم كبائر الذّنوب.
التوبة تكون كذلك من التحايل على الزكاة والتهرّب منها وإعطائها غير مستحقيها. ((وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)).
التوبة تكون كذلك من الغيبة: ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)) (الحجرات:12). في كلّ يوم تتحرّك ألسنتنا بالحديث عن أخطاء الآخرين وعيوبهم ونقائصهم أكثر ممّا تتحرّك بذكر الله. لم نترك عبدا من عباد الله إلا وسلقناه بألسنتنا.. حتى أصبح لا يكاد يسلم من الغيبة أحد في هذا الزمان، إلا قليل ممّن رحم الله. حتى المصلّون، يصلّي الواحد منهم ويحافظ على صلاته، لكنّ لسانه سريع بالغيبة.. وحتى كثير ممّن ظاهرهم الصلاح تفاجأ بأنّ ألسنتهم كالثّعابين في أعراض المسلمين.. وهذا من أعظم الخسران: أن يعمل العبد الصالحات، ثمّ تذهب حسناته إلى ميزان غيره، يقول الإمام “الغزالي” -رحمه الله-: “الغيبة هي الصاعقة المهلكة للطاعات، ومثل من يغتاب كمن ينصب منجنيقاً يرمي به حسناته شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً”، وحينما سئل أحد العلماء عن مسلم كثير الطاعات، لكنه يغتاب، قال: لعل الله سخره ليعمل لغيره”.. الغيبة من كبائر الذّنوب التي ينبغي لكلّ مسلم أن يجعل نصب عينيه الإقلاع عنها والتوبة إلى الله منها، حتّى لا تكون حاله كحال من يحمل الماء في الغربال.
التوبة تكون كذلك من أكل الحرام: وأكلُ الحرام وباء هذا العصر: تجد العبد على خير كثير، لكنّه لا يتورّع في عمله، ولا يتقي الله في شغله أو في تجارته، يتملّص من عمله لأتفه الأسباب ويسوق لنفسه أوهى المبرّرات ليغيب عنه: يغيب بسبب زكام خفيف، وبسبب تعكّر مزاجه، أو بسبب خلاف مع زميل في العمل، أو بسبب مطر أو ثلج… والعجيب أن تجده يصلّي التراويح في رمضان ويتلو القرآن ولكنّه لا يتوب من كبيرة أكل الحرام! أيّ صيام هذا الذي يصوم فيه العبد عن الحلال وهو مقيم على أكل الحرام؟ ليس هذا فحسب، بل يطعم أبناءه وينبت لحمهم من الحرام!
التوبة تكون كذلك من الظّلم وأخذ حقوق الآخرين: تجد العبد يصلّي لكنّه جاحد لحقوق أخواته في الميراث.. يصلّي ويصوم رمضان، لكنّه أخذ حق أبناء عمومته في الأرض، وآذى جاره وضيّق عليه.. يصوم ويسأل عن اللعاب والنخامة في رمضان، وهو الذي عليه عند النّاس ديون كثيرة لا يريد سدادها…
ضروريّ ومهمّ جدا أن نتوب إلى الله في رمضان من هجر المسجد، ونتصالح مع بيوت الله، ونصلي فيها الصلوات الخمس والتراويح.. لكنّ هذه التوبة لن تشفع لنا إن نحن ظللنا مصرين على أكل الحرام، وعلى الغيبة والظّلم وأكل أموال النّاس، وعلى الكذب والبهتان… ماذا ينفع المسلمة أن تصلّي التراويح في بيت الله في رمضان، وهي التي تخرج في رمضان وغير رمضان متزيّنة متعطّرة مائلة متمايلة؟ ماذا ينفعها حين تحرص على التبكير للتراويح وهي التي تؤذي زوجة ابنها أو زوجة حماها أخا زوجها بالسّحر والنّميمة والبهتان؟ ماذا ينفع الزّوجة أن تعدّد الليالي التي صلّت فيها التراويح وهي التي تحرّض زوجها على أمّه وأبيه؟ ماذا ينفع الأمّ أن تصلي التراويح وتحمل السبحة في يدها وهي التي تسحر زوجة ابنها وتجد متعتها وهي ترى حليلة ابنها تعذّب في حياتها؟!
في كلّ عام، نتوب في رمضان، ثمّ نرجع في شوال إلى ما كنّا عليه قبل رمضان! لأنّنا نتوب توبة الثعالب؛ يختار الواحد منّا معاصٍ يتوب منها، ويترك أخرى يبقى مصرا عليها في رمضان: يتوب من ترك الصلاة، لكنّه لا يتوب من أكل الحرام، بل إنّ منسوب الحرام الذي يأكله يزيد في رمضان، بتهاونه في عمله، في كلّ يوم يأتي عمله كسلان ويتهرّب من أداء واجبه، ويخرج من عمله قبل وقت الخروج ويتعلق بأتفه الأسباب ليغيب.. يتوب من إضاعة الصلاة ولا يتوب من النظر إلى الحرام في ليالي رمضان.. تتوب المسلمة إلى الله من إضاعة الصلاة ولا تتوب إلى الله من التلاعب بالحجاب، ومن الضحك مع الرجال وممازحتهم واللين معهم في الكلام…
باب التوبة مفتوح.. لكن، لنكن هذا العام صادقين مع الله أولا، ومع أنفسنا ثانيا، حتى تكون توبتنا بداية لحياة جديدة تنتهي بنا إلى الحياة الحقيقية في الجنّة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!