-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ثرثرة رمضان

عمار يزلي
  • 1390
  • 0
ثرثرة رمضان

عندما يتحول شهر رمضان المعظم والعيد، إلى أيام استهلاك منقطع النظير، تكون وجهة نظرنا هي التي تغيرت تجاه العيد ورمضان، ونكون بذلك قد غيرنا سلوكا ربانيا علمه إيانا من خلال سنة نبيه في أنفسنا وفي أعمالنا وأبداننا!

عندما نصوم عشرة من شعبان، ثم نوصل رمضان بستة من شوال، فهذا ليس مجرد تطوع بسيط، بل تمرين للتمكن من مجاهدة النفس! فالنفس لا تشبع ولا تمل ولا تكل من الملل، وأنت حين تغذيها أكثر، تطالبك بالمزيد مصداقا لقوله تعالى في جهنم: “يوم نقول لجهنم هل امتلأت فتقول هل من مزيد”! حتى أننا نجد الشيخ البصيري في البردة يقول “فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتها// إن الطعام يقوي شهوة النهم”، إلى أن يقول: “والطفل كالنفس إن تهمله شب على// حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم”.

فالمسألة ليست فقط جوع وعطش، بل تمرين ورياضة نفسية تبدو بدينة، ولكنها في الواقع روحية ونفسية، الغرض منها هو “الزهد” في ملذات الدنيا (وإلا ما كانت اللذات الأخرى غير الأكل لتفطر في رمضان!) فالزهد في رمضان هو زهد في كل الأشياء إلا في العبادات، ففي رمضان تقوى وتزيد!

مع الأسف، نحن حولنا كل شيء إلى عكسه! نسرف ونبذر ونستهلك في كل شيء، إلا في العبادات، فإننا نزهد فيها: ننام نهارا (قيام النهار!) ونسهر ليلا! نجوع ونعطش نهارا، ونعوض ثلاث مرات أكل وشرب النهار.. ليلا! وبذلك نكون مثل الجمل بأقدامه العريضة يعيد رص الأرض بعد حرثها!

نمت على هذا الوقع، لأجد نفسي نائما في وضح النهار في رمضان!

لقد سهرت أمس إلى غاية الفجر في المقهى، وغلبني النوم ابن الكلب قبل أن اصلي الفجر! ولما أنا حين أنام فجرا لا أفيق إلا مغربا، فلم أصل بقية الأوقات في أوقاتها! ولما أني حتى قبيل المغرب لا أفيق إلا بالمهماز، فقد أفقت على جلبة في الخارج! لقد كان الصراخ يعم الحارة وأصوات مزامير الشرطة والإطفاء تزيد من حدة الصخب صخبا على صخب! لقد شب حريق في العمارة المجاورة وأخذ الجميع متفحمين إلى المستشفى! عائلة بكاملها، تفحمت بسبب نوم عميق للجميع يوما كاملا! عرفت هذا فيما بعد! لكن، لما أفقت لم أكن أعرف أن النوم الطويل قد يؤدي إلى حريق في الدنيا قبل حريق الآخرة! تصوروا لو أن ما حدث في البناية المجاورة، حدث لي وأنا نائم بلا صلاة! (لما عرفت فيما بعد من هي الأسرة التي ذهبت ضحية لهذا الحريق الرهيب، وكانت العائلة مكونة من الأب والأم وشاب في الثلاثين وبنت مطلقة، وأن الأسرة لا تسكن في بيتها إلا في رمضان بحثا عن النوم، لأن بيتهم الثاني.. بيت الزوجة، جاء في حي شعبي، وهذا البيت هو للمطلقة وأخيها!: لا أريد أن أحكي ما حكاها وما يحكيه الناس عن الأب والأم واستهتارهما وقلة حيائهما وتربيتها لأبنائهما بطرق رعناء فاسدة أخلاقية وخلقا!). لما عرفت هذا، شعرت بلحمي يتكمش كالقنفذ ويتشوك كجلد الضربان: يا إلهي.. لو كنت أنا هو من ذهب مع هذا الحريق!

الجو في الخارج كان حزينا وكئيبا وملبدا، كما لو أن الليل كان سيجن قبل الوقت!

خرجت من نومي إلى الباحة ورحت اسأل: شكون هذا اللي كلاته النار؟ لم يجبني أحد! فرحت أكرر السؤال: اللي مات بلا صلاة ونائم وصايم، ماعنده لا صلاة ولا صوم، غير يروح يزيد يكمل رقاده خير!.. (كنت أهدر وأكلم نفسي أكثر من أني كنت أسأل الناس). بعدها تقدمت من شرطي كان يكلم المخفر في الطالكي: خويا، قالوا لي هذوا ما يصليوا ما يصوموا.. بصح؟ قال وهو يبتعد: علاه حسبتني عزرائيل؟ تركته ورحت أتقدم إلى سائق سيارة الإسعاف: “كلهم موتى؟ شحال منهم؟ بزاف؟ باش بالغاز؟ قالوا لي كانوا يشربوا بصح؟” لم يجبني، وتركني ونزل من السيارة ليلتحق بقائد المجموعة!.. كل هذا وأنا لا أتذكر بأنه علي أن أصلي أوقاتي التي لاتزال عالقة منذ الفجر! سبحان الله! نسيت أموري الشخصية ونفسي ورحت ألهث وراء أخبار وعثرات الناس كما لو كانت أولوية عندي!.. تركت الجميع ورحت أسأل امرأة عجوزا تبدو جارة راهم، لأنها كانت تبكي بكاء مرا: “يالحاجة؟ واش كاين؟ كاش ماكاين موتى؟ محروقين؟ مشوهين؟”، فأجابت وهي تلطم وجهها: بنتي.. بنتي..! فهمت وقتها أنها جدة البنت المطلقة المفقودة في هذا الحريق! فلقد كانوا لايزالون يطفئون النار والدخان أعمدة سوداء في السماء، مما يعني أنها لم تكن بعد تعلم إن كانت حية أو ميتة، لكن بعد استخراج الضحيتين: الأب والأم، كان واضحا أن كل من كان في البيت لقي نفس المصير! ولأني جريء ومتجرئ ولا عندي لباقة في الكلام ولا طراوة اللسان ولا حنان في المعاملة وفي الكلام، رحت أشبعها أسئلة ووجه دماغ: بصح بنت بنتك كانت خارجة الطريق؟ وخوها حتى هو عاطيها غير لدعاوي الشر؟ وبوهم سكارجي وقمارجي وسراق وزطايلي وتاع مخذرات؟.. أما بنتك.. الله ينعلها سلعة! (ولم أشعر إلا وصفعة تتكلم لي في الوجه، ولطمة بحقيبة يد كانت تحملها مليئة فيما يبدو بزجاجة عطر لا يقل وزنها عن رطل!: ضربتي بجوار الأذن اليسرى، فكدت أن أفقد توازني.. بل فقدت التوازن فيما بعد لما سقطت مغشيا علي: سمعت واحدا يقول تحت أنفه الأخن: تصلح له.. يدخل روحه في كل شيء! يستاهل! لما أفرغوا علي الماء، بدا لي: أن كلبا مر علي وأفرغ حمولته وفات! كنت أستعيد السيطرة على جسمي وأنهض وأنا أمسح وجهي وأتقدم من رجل آخر كان يساعد رجال الإطفاء.. كان من الجيران، أعرفه.. قلت، لعله يعطيني “الرسمي”!: “ماتوا؟ حرقا أم اختناقا؟ ماذا كانوا يفعلون؟ نائمين أم يفطرون؟ أم يسكرون في عز رمضان؟ أم ماذا؟ هل صحيح أنه كان معهم حشيش ومخدرات وخمور نتاع وزير التجارة؟”: الرجل رد علي باستهزاء: ما حشمتش؟ مازال تسول؟ الله يهديك روح شوف أشغالك!

لما قال لي: روح شوف أشغالك؟ تذكرت أني لم أصل لا الفجر ولا الظهر ولا العصر، والمغرب لم يبق عليه سوى ساعة!

عندها ضربت رأسي بكفي اليمنى وفمي بالكف اليسرى، وعدت مسرعا إلى البيت لأمحو عني ما أردت للآخرين أن يمحوه على أنفسهم! في الطريق، وعلى مسافة عشرة أمتار فقط، التقيت “موح الهدارجي”! وتعالى تشوف للهدرة حول الموضوع: شبعني أخبار عن هذا الخبر! بكل التفاصيل، كأنه كان ميتا معهم! من أين جاء بهذه التفاصيل المملة في الوصف؟: هذاك ولد الحرام.. ياكل دراهم الناس.. يسلف وما يردش.. طرطق شحال من واحد.. من الحكومة.. مقلة.. مرته.. فاعلة وتاركة.. بنته موسخة.. ولده نتاع زطلة..ا لحاصل عائلة خنز!


وبقي الرجل يهدر وأنا أسمع! حتى بدا لي أني أنا الثرثار… هو محب الاختصار.. رحت أقلص من تفاصيل حديثه ليذهب إلى المهم.. فإذا به يهمل ويذهب إلى أبعد مدى…! ولما لم ينتهي.. أنهيت الحديث.. بل آذان المغرب هو الذي أنهى الحديث وفرق بيننا وبين الهدرة التي لا تنتهي.. في الناس! لما عدت إلى البيت.. بدأت بالأكل.. ثم دخلت في حديث مع عائلتي عن تفاصيل ما حدث للجيران.. ونسيت أني لم أصل المغرب! ولا باقي الأوقات!.. كان علي أن أصلي الأوقات بعد العشاء!

عندما أفقت فعلا من نومي.. كانت الساعة تشير إلى تمام وقت الإفطار!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!