الرأي

جذور التكفير من الخوارج إلى دعاة الإرهاب

لقد تضافرت النصوص الشرعية في النهي عن إطلاق وصف الكفر على المؤمنين وإخراجهم من ربقة الإيمان ظلما وعدوانا، لما يترتب على ذلك من أحكام خطيرة في الدنيا والآخرة، وكانت طائفة الخوارج المارقين أول من سنّ هذه السُّنة القبيحة في التاريخ وارتكبوا بسبب ذلك الأهوال العظيمة مما هو مسجل في كتب التاريخ، وعلى هذه السنن سار أفراخهم المعاصرون من دعاة الإرهاب تحت تلك الذرائع نفسها فأعادوا بذلك سير آبائهم الأولين.

يقول الإمام تقي الدين بن عبد الحليم: “الخوارج هم أول من كفَّر المسلمين، يكفِّرون بالذنوب، ويكفِّرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله”.

وقد قرر أن هذه الطائفة المستحِلَّة لدماء المسلمين كانت شرا عليهم من المخالفين لهم في المعتقد من اليهود والنصارى، حيث يقول: “إنهم شر على المسلمين من غيرهم، فإنهم لم يكن أحدٌ شرا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى، فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم، مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفِّرين لهم، وكانوا متدينين بذلك، لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة”.

إنهم لم يكن أحدٌ شرا على المسلمين منهم، لا اليهود ولا النصارى، فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم، مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم، مكفِّرين لهم، وكانوا متدينين بذلك، لعظم جهلهم وبدعتهم المُضلة.

لقد كان الخوارج في البداية من أنصار علي بن أبي طالب ومن المقاتلين تحت رايته والمؤيدين له، وفي حرب صفين حين طلب معاوية إيقاف القتال واللجوء إلى التحكيم لتصفية النزاع الدموي، وكان رأيُ علي الاستمرار في القتال، لكن جيشه أو قسمٌ منه رفض وطالب بقبول التحكيم فاضطر لذلك، لكن ما إن أعلن ذلك حتى خرج من جيشه جماعة ترفض التحكيم، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، لكن هؤلاء قالوا: “لا حكم إلا لله، ومن حكَّم غيره فقد كفر”، فكان رد علي عليهم: “كلمة حق أريد بها باطل”، ثم بعث لهم عبد الله بن عباس لنقاشهم، فرجع الكثيرُ منهم عن آرائهم، ولكن بقيت جموعٌ كبيرة مصرَّة على التكفير، ثم راحت مع الأيام، ومع طرح أفكار جديدة تنقسم إلى جماعات صغيرة، تستحل كل واحدة دم الأخرى، ودماء المسلمين، واستمروا في الثورة طيلة العهد الأموي، وشطرا من العهد العباسي حتى قُضي عليهم.

ويمكننا تلخيص بعض نظريات الخوارج فيما يلي:

– يقولون بصحة خلافة أبى بكر وعمر، أما عثمان عندهم فقد انحرف في آخر خلافته عن الحق والعدل، فكان يستحق في نظرهم القتل أو العزل، وأن عليا قد ارتكب كبيرة بتحكيمه غير الله.

– الذنب عندهم يعني الكفر، فيكفرون كل مرتكب كبيرة ما لم يتُب منها، وعلى هذا كفَّروا علانية كل الصحابة الذين خالفوهم في الرأي، بل لم يتورَّعوا عن لعنهم وسبِّهم علانية، كفَّروا عامة المسلمين، لأنهم في نظرهم ليسوا أطهارا من الذنوب، وثانيا، لأنهم لا يكفِّرون الصحابة، بل جعلوهم أئمة لهم.

– طاعة الخليفة أو الحاكم واجبة ما بقي على طريق العدل والصلاح، فإن حاد عنه وجب قتلُه أو قتاله أو عزله. 

– كانوا يقبلون القرآن مصدرا من مصادر التشريع، أما السنة والإجماع فلهما فيها سبيل مختلف عن سبيل عامة المسلمين، وهذا بسبب موقفهم من جمهور الصحابة الذين هم نقلة السنة. 

يقول العلامة أبو زهرة: “لقد كان الخوارج أشد الفرق الإسلامية دفاعا عن مذهبهم، وحماسة لآرائهم، وأشد الفرق تدينا في جملتها، وأشد تهورا واندفاعا، وهم في تهورهم واندفاعهم متمسكون بألفاظ قد أخذوا بظواهرها، وظنوا هذه الظواهر دينا مقدسا، لا يحيد عنه مؤمن، وقد استرعت ألبابهم كلمة لا حكم إلا لله فاتخذوها دينا ينادون به، فكانوا كلما رأوا عليًّا قذفوه بها”.

ونظرا لضيق الأفق وسفاهة الأحلام التي تنخدع بالشعارات البراقة دون فقه معانيها، فقد ضربت الفرقة صفوف الخوارج ضربا مدمرا، بل أكلتهم الفتن أكلا فراحوا يكفِّرون بعضهم بعضا، ويستحلون الدماء ويسبُون الذرية، فكانوا سوط عذاب على بعضهم وعلى المسلمين عامة. 

وقد انقسموا لأكثر من عشرين فرقة، من أشدها المحكمة والأزارقة والنجدات. فذهبت المحكمة الأولى إلى كفر عثمان وعلي ومعاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، وأصحاب الجمل وكل من رضي بالتحكيم، وكل صاحب ذنب ومعصية، وكل مخالفيهم كفرة، ومن كان معهم وتخلف عن الهجرة فهو كافر. 

واعتبرت الأزارقة غيرَهم من المسلمين مشركين، لذا لا صلاة معهم ولا بأذانهم، وذبيحتهم حرامٌ أكلها، والزواج من غير فرقتهم غير جائز، ولا التوارث، وجهاد المسلمين الآخرين فرض عين، ودماؤهم وذراريهم وأموالهم حِلٌّ لهم، وكل أزرقي لا يخرج لجهاد المسلمين فهو كافر. 

وقد ذهبت النجدات إلى ما نسميه اليوم بالفوضوية فقالت: إن قيام الدولة “الخلافة” غير ضروري إطلاقا، وبإمكان المسلمين أن يعملوا بشكل جماعي، ولكن يجوز انتخاب الخلفية إذا لزم الأمر. 

لقد كان الخوارج مخلصين، وكانوا يتقدون حماسا، ومع ذلك فقد شربوا من دماء المسلمين حتى ارتووا، وقتلوا منهم نساء وأطفالا ورجالا ما لم يقتله الكفار.

 

دعاة الإرهاب وصلتهم بفكر الخوارج 

لقد مر على أفكار الخوارج أكثر من ألف عام، وناقش المسلمون أصحابها، بل قاتلوهم، وقد عانت الأمة الإسلامية منهم إرهاقا وعنتا شديدين، وبقيت أصداء تلك المعارك في كتب التاريخ وكتب العقائد والفرق، ولكن الجماعات الإرهابية المعاصرة قد نفخت في ذلك الرماد من جديد، وأصبحنا نقرأ لهم فتاوى عجيبة في التكفير وإراقة الدماء المعصومة. 

ذكر الشيخ أبو عبد الله المنصور، وهو أحد علماء العراق المعاصرين بعضا من صور التكفير التي يذهب إليها تنظيم (داعش) ومنها: 

– مجرد الجلوس مع الأمريكيين في العراق للهدنة يعتبر ردَّة. 

– يكفِّرون أي أحد من الإسلاميين إذا دخل الانتخابات. 

– خروج أي قيادي من سجون الاحتلال الأمريكي يعد عندهم ردَّة عن الإسلام، ذلك أن الصليبيين لن يُخرِجوه إلا إذا باع دينه في نظرهم. 

– تكفيرهم لجماعات بأكملها كجماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات الدعوية، فهذا عندهم من المعلوم من الدين بالضرورة. 

– التوسُّع الفاحش والفهم الخاطئ لقاعدة (من لم يكفِّر الكافر فقد كفر).

– تكفير جميع أعيان من ينتسب لبعض الأجهزة الحكومية، وبما أن التكفير عند هؤلاء لا ضابط له، فقد يتوسعون فيكفِّرون أي موظف في الدولة.

وقد حرَّم غلاة التكفير المعاصرون المشاركة في البرلمانات والانتماء إلى الأجهزة الأمنية، بل حتى الدخول إلى الجامعات والوظائف العامة في الدولة، وحرَّموا العضوية في هيئة الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، واعتبروا كل ذلك من مظاهر الكفر والشرك بالله كما بيَّن ذلك أبو محمد المقدسي وهو أحد أقطاب هذا الفكر الضال في كتابه (ملّة إبراهيم).

ويؤكد هذا المعنى الدكتور سيد إمام الشريف في كتابه (الجامع في طلب العلم الشريف) وهو دستور التكفير كما سبق وأن بيَّناه في مقال سابق. 

يقول سيد إمام “فأيُّ دولة من الدول تشترك في عضوية هذه الأمم (يقصد الهيئات الدولية) فقد باءت بالكفر البواح لما في ميثاق الأمم المتحدة من المعارضة الواضحة لكلمة لا إله إلا الله”.

وقد ذكر بعض الباحثين صورا من الغلو في التكفير لدى جماعة الهجرة والتكفير منها: أنهم يكفِّرون كل من ارتكب معصية ولم يتُب منها، ويكفِّرون الحكام، لأنهم لم يحكموا بما أنزل الله، ويكفِّرون المحكومين لأنهم رضوا بهم، وتابعوهم، ويكفِّرون علماء الدين وغيرهم، ويكفِّرون كل من عرضوا عليه فكرهم فلم يقبله. 

والعصور الإسلامية بعد القرن الرابع الهجري كلها عصور كفر وجاهلية، لتقديسها صنم التقليد المعبود من دون الله. 

وهكذا أسرفوا في التكفير، فكفَّروا الناس أحياء وأمواتا بالجملة. 

ومن غلو جماعات التكفير والإرهاب أنهم اعتبروا مساجد المسلمين مساجد ضرار، واعتبروا أئمتها أعوان الطاغوت، فحرَّموا الصلاة وراءهم، لذلك أحصت الجزائر قتل أكثر من مائة إمام من أئمة المساجد وخطبائها راحوا ضحية هذه الآراء الضالة التي خطت بعيدا في المنهج الخارجي الزائغ.

مقالات ذات صلة