-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
بداياتها كانت بوصيّة "غريبة"

جمعية “الوفاء”.. قصص نجاح ملهمة أبطالها مسنّون ومشرّدون

نادية سليماني
  • 884
  • 0
جمعية “الوفاء”.. قصص نجاح ملهمة أبطالها مسنّون ومشرّدون

قلّة من الجمعيات، من تركت بصمتها في المجتمع، وقامت بدورها على أكمل وجه، أو أكثر.. فأن تنتشل مشرّدا قضى سنوات في الشارع، وتجعله “قدوة”، بتحويله إلى صاحب عمل يدير أموالا وموظفين ذلك –فعلا- عمل إنساني لا مثيل له. وهذا ما تقوم به جمعية “الوفاء” للتكفل بالأشخاص المسنين، فهي جمعية صنعت التميّز في مجال المساعدات الإنسانية من تبرعات أعضائها فقط.

لطالما أثار نشاط الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني، التساؤلات، لأن كثيرا منها تتلقى أموالا ومساعدات من السلطات، ولكن نتائج نشاطها على أرض الواقع غائبة تماما، بل هي مجرد اسم على ورق، تظهر عند كل استحقاق انتخابي ثم تختفي، لكن الجمعية الولائية “الوفاء” لمساعدة الأشخاص المسنين، تعتبر استثناء حقيقيا، وإنجازاتها تدلل على ذلك دون تلقي أي دعم من السلطات المحلية، رغم أنّها الجمعية الوحيدة الموجودة في الجريدة الرسمية.

والدته تبرعت بعمارة من 18 شقة وسط العاصمة.. !!

قصدنا مقر الجمعية الكائن ببلدية القصبة بالجزائر العاصمة، وهنالك استقبلنا رئيسها، سعيد حواس، وهو مفكر اجتماعي شغل العديد من المناصب المرموقة سابقا، قبل تفرّغه للعمل الخيري.

وقصة إنشاء الجمعية مؤثرة حقا، فقد بدأت بوصيّة “غريبة” من والدة سعيد حواس، تطلب منه التبرع بعمارتها المتواجدة بالجزائر الوسطى التي تضم 18 شقة، واستغلالها في أعمال خيرية خالصة لوجه اللهّ، الابن لم يستوعب الوصية وتناساها، لكن والدته وعندما اشتدّ عليها المرض في 1980 ذكّرته بوصيتها، لتفارق الحياة بعد ثلاثة أيام.

ولأن سعيد هو الابن الوحيد في الأسرة، شعر بحيرة في كيفية تنفيذ وصية والدته، التي كانت تأتيه في المنام بعد وفاتها مشددة على تنفيذ وصيتها، ومن هنا جاءت فكرة العمل الخيري التطوعي، ففي عام 1987، أنشأ جمعية مساعدة المسنين “الوفاء” مع بعض الأصدقاء.

وقال بأن بداية نشاطهم الخيري، كانت بالتجول في شوارع ولاية الجزائر العاصمة، لمساعدة المتشردين والأشخاص دون مأوى وخاصة المُسنين، وأضاف: “أول شخص ساعدناه هو متسول يبلغ 42 سنة من العمر، أجرينا له فحصا طبيا شاملا في مقر الجمعية أو المركز بحي القصبة، ثم أسكنته في إحدى شقق العمارة”.

وتوالت عمليات مساعدة المتسولين والمتشردين عبر شوارع العاصمة، إذ كان أعضاء الجمعية ينتشلونهم من الشارع، ويخضعونهم لفحص طبي شامل، ثم يسكنونهم في إحدى شقق العمارة وبالمجان.. وهكذا إلى أن امتلأت الشقق 18 جميعها بالسّاكنين، وذلك من عام 1980 إلى 1986.

أوّل جمعية تنظم “تليطون” لبناء ديار الرحمة

أرسل رئيس جمعية “الوفاء”، ملفا لرئيس الجمهورية المرحوم محمد بوضياف، لأجل إطلاق أول “تليطون” عرفته الجزائر، هدفه جمع أموال لإنشاء دور الرحمة عبر الوطن، وبالفعل أطلق “التليطون” الذي تبرع فيه غالبية الشعب الجزائري، وتم جمع 26 مليار سنتيم في ظرف يومين فقط، ووّجهت الأموال لإنشاء مشروع ديار الرحمة ببئر خادم بالعاصمة، ومسرغين بوهران، جبل الوحش بقسنطينة، أما بمدينة ورقلة فرفض سكانها الفكرة، ومبررهم أنّهم متمسّكون بتقاليد احترام كبار السن، ويستحيل إدخالهم إلى دار للرحمة، وبالتالي تعتبر هذه الجمعية أول من أنشأ دور الرحمة في الجزائر.

ولاهتمام حواس بفئة الشيخوخة، تصادف أثناء سفره لأمريكا، أن زار دارا للشيخوخة هناك، فتفاجأ حقا لمستوى الخدمات الراقية والإنسانية المقدمة لهذه الفئة، في وقت يموت مسنون في الجزائر ببطء، جراء التجاهل والإهمال من العائلة والمجتمع.

تجاهل المتقاعدين جعله يفكّر في بناء ناد ترفيهي لهم

وحسب قوله “المتقاعدون في بلادنا مهمّشون ولا حياة اجتماعية لهم، فحياتهم بعد التقاعد مقتصرة على المنزل أين يركنون في الزاوية، أو يقضون حياتهم على كرسي بحديقة يلعبون الدومينو، وهذه من أهم أسباب الموت المبكر للمسنين في بلادنا”.

وبحسب دراسة اجتماعية ونفسانية قام بها مختصون بالجزائر، فالرجل الجزائري يكون عاملا نشيطا، ولكن بمجرد خروجه للتقاعد يتحول إلى شخص معزول عن المجتمع، ومهمّش عائليا ومجتمعيا.

وأسباب الظاهرة، بحسب الدراسة، تعود إلى الفراغ إذ لا يجد المتقاعد مكانا يمضي فيه وقته، من غير الجلوس بالحدائق العامة، أو بباب المنزل، وهذا ما يتسبب له في صدمة نفسية ووساوس، تجعله يمضي حياته متنقلا بين عيادات الأطباء، فغالبية المسنين في بلادنا يعانون من الضغط الدموي، والسّكري، بسبب الضغوطات النفسية.

كما يصاب المتقاعدون، بحسب الدراسة، بصدمات نفسية مختلفة، ما يجعلهم سريعي الغضب بالمنزل، بحثا عن الاهتمام من أفراد العائلة التي ركنتهم إلى الزاوية.

ولهذه الأسباب، سعى رئيس جمعية الوفاء، لإنشاء ما أطلق عليه تسمية “نادي المسن”، الذي يهدف لمنح حياة جديدة للمسنين والمتقاعدين، وعنه يقول: “هو مركز لا يشبه مراكز الشيخوخة الحالية، لأنه أقرب إلى دور الشباب.. فيه يلتقي المسنون مع بعضهم، ويّكونون صداقات”.

وكالة سياحية تؤمن رحلات مجانية للمسنين..

وبدأ العمل على هذا المشروع في 2018 من مدينة بوسعادة، على قطعة أرضية مساحتها 15 هكتارا، حيث يضم المركز ورشات للحرف والصناعات التقليدية، يسيرها مسنون، لأن كثيرا منهم يمتلكون مواهب مفيدة أو حرفة مفيدة للمجتمع. إذ تمنح لكل شيخ ورشة يعمل بها ويكون فيها شبابا.

ويضم المركز وكالة سياحة وسفر، هدفها توفير رحلات سياحية داخلية للمسنين من مختلف الولايات، وقد استفاد 98 شخصا من دورة سياحية انطلقت من الجزائر العاصمة، دامت 23 يوما، تجول فيها المسنون عبر ولايات بوسعادة، المسيلة، باتنة، بسكرة، سطيف وبرج بوعريرج، البرج، كما زاروا واستمتعوا بالحمامات المعدنية.

وأكّد رئيس جمعية “الوفاء” عقد شراكة مع وزارة الشباب والرياضة، لغرض السماح للمسنين أثناء رحلاتهم السياحية، بالمبيت في دور الشباب، لانخفاض أثمانها.

وعن نتيجة أوّل رحلة قامت بها الجمعية، قال المتحدث: “سكان مختلف الولايات، رحبوا بالمسنين، بل ونسجت بينهم علاقات اجتماعية، كما شهدنا حالات تعارف وزواج بين المسنين وعائلاتهم، أثناء هذه الرحلة”.

كما توفر جمعية “الوفاء” حصّة للمسنين لزيارة بيت الله الحرام، وفي هذا الشأن يناشد محدثنا رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، تسهيل الحج لفئة المتقاعدين وحتى الصحفيون القدماء والمتقاعدون، لهم نصيب في نادي المسنين، بإطلاقهم مجلة لنادي المسنين.

مركز صحي لعلاج المسنين فقط..

يسعى أعضاء الجمعية لتوفير مركز صحي لعلاج المسنين فقط، يشرف عليه البروفيسور مصطفى بن عامر، مختص في الطب الداخلي ورئيس مصلحة بمستشفى رويبة بالعاصمة، ومختص في طب المسنين..

ولأوّل مرّة في الجزائر، سيتمكن المُسنّ من التداوي في هذا المركز مع عائلته، التي تمكث معه وتعتني به بالمستشفى. وهذه الفكرة قيد الدراسة مع وزارة الصحة والداخلية والتضامن، بينما أموال المشروع من جيوب أعضاء المركز فقط. ويضم النادي أيضا مصلحة للعناية بالمتشردين.

دعوات إلى عصرنة مراكز الشيخوخة وتحويلها إلى نواد ترفيهية

ويوجه حواس، نداء إلى وزارة التضامن، لتغيير التنظيم القانوني لمراكز الشيخوخة على مستوى الوطن، لتصبح نوادي للمسنين، تتوفر على جميع سبل راحتهم، انطلاقا من تجربة مشروع بوسعادة. مع تعميم فكرة “نادي المسنين” على جميع ولايات الوطن، كما وجه المتحدث نداء، إلى جميع الإطارات من مهندسين معماريين، وسلطات محلية، ومحسنين، للانخراط في هذه المبادرة الإنسانية، التي تهدف لمنح حياة جديدة لفئة الشيخوخة بالجزائر، باعتبارها السند الحقيقي والمعدن الأصيل الذي يستلهم منه الأجيال الحكمة والتجربة، للقضاء على آفات اجتماعية عديدة.

والمؤسف، يقول المتحدث، أنّ الجمعية الولائية “الوفاء” لرعاية المسنين، ورغم نشاطها الميداني منذ 33 سنة كاملة، ” لم يتم التواصل معها من طرف منظمات المجتمع المدني، ولا استشارتها في أمور تخص المجتمع، ولا حتى دعمها بإعانات مالية، عكس جمعيات معروفة بالاسم فقط، ولا نشاط يذكر لها” على حد تعبير محدثنا.

من متشرد إلى مُربّي أرانب مشهور

ولرصد المساعدات الحقيقية التي قدّمتها جمعية “الوفاء” للمشردين والمسنين، نذكر قصة ثلاثة أشخاص من بين العشرات، الذين تغيرت حياتهم كليا، بعدما تكفلت بهم الجمعية.

قصّتنا الأولى، بطلها “عمي بدوي” منحدر من ولاية قسنطينة، وجده أعضاء الجمعية متشردا في شوارع العاصمة، وهو في عمر 72 سنة.. تم نقله إلى مركز الجمعية والاعتناء به طبيا ونفسيا.

من هوايات عمي بدوي، تربية الأرانب، وهو ما استغلته الجمعية، حيث اتصل أعضاؤها بوالي قسنطينة آنذاك، والأخير قدّم مقرا للشيخ، يمارس فيه هواية تربية الأرانب، مع تمكينه من مختلف التجهيزات والوسائل، كما مكّنته الجمعية من قرض مالي، والنتيجة هي ازدهار نشاط عمي بدوي، لدرجة وظف معه 3 شباب لمساعدته، حيث أرجع قرض الجمعية، التي كان يزودها بلحوم الأرانب مجانا، والمفاجأة أنه استطاع أن يحج من أمواله، بل وتكفل أيضا بحجّ اثنين من موظفيه..والمعني يبلغ اليوم 107 سنوات.

مسنة متشردة تتحول إلى صاحبة مؤسسة ناشئة

القصة الثانية، لخالتي الطاوس، منحدرة من منطقة القبائل، كانت هي أيضا متشردة ودون مأوى، تتنقل بين شوارع وأزقة الجزائر العاصمة. قصتها مؤثرة جدا، إذ توفي زوجها وأولادها جميعا في حادث مروري مميت، ثم طردتها عائلة زوجها، فاتخذت من الشارع مأوى وهي في سن 63 سنة.

خالتي الطاوس تتقن تحضير الكسكسي التقليدي، وهو ما استغلته جمعية “الوفاء” التي انتشلتها ومنحتها شقة.

المعنية، شرعت في ممارسة هوايتها، بعدما علمت 11 امرأة أخرى من نزيلات مركز القصبة، وأنشأن مؤسسة مصغرة.. وتهاطلت الطلبات على مؤسستهن من مختلف محلات الجملة والتجزئة، وأصحاب الأعراس. وبذلك عادت خالتي الطاوس لحالتها الاجتماعية الطبيعية، وهي الآن في سن 103 سنة.

من شخص مريض نفسيا إلى موظف ملتزم

“عمي علي” سائق أجرة سابق، كان مشرّدا في شوارع العاصمة، وهو في عمر 51 سنة. بسبب تعرضه لحادث مروري تعرّض لحادث مروري توفت فيه زوجته وأولاده، ما تسبب له في صدمة نفسية حادة، جعلته هائما في الشوارع.. مركز القصبة، انتشل عمي علي، وعالجه نفسيا إلى أن استرجع صحته العقلية. بعدها اشترت له الجمعية سيارة يعمل بها سائق أجرة. والنتيجة توظيفه سائقا بالمركز، كما عاود الزواج وصارا أبا لـ 5 أولاد، وهو الآن في عمر 66 سنة، ويعمل سائقا بمركز القصبة الإنساني.

من مشرّدة عاقر إلى خياطة ووالدة لطفلين.. !!

أما خالتي زبيدة، المنحدرة من ولاية الشلف، التي طردها زوجها بسبب عدم الإنجاب، ولأنها يتيمة كانت تعيش مع زوجة والدها التي طردتها بعد وفاة والدها، استقرت في شوارع العاصمة، وجدتها الجمعية مشردة في سن الـ 50، حيث تم نقلها للمركز والاعتناء بها، ولأنها كانت تتقن أعمال الخياطة التقليدية من “طرز وشبيكة والغرغاف”، اشترى لها المركز تجهيزات الخياطة، وهي الآن تعمل رفقة 5 سيّدات من نزيلات المركز، بعدما كوّنتهن، بل وتزوجت وأنجبت ولدين، رغم أنّ طلاقها كان بسبب العقم… !!

وهذه القصص الملهمة والمؤثرة، تؤكد أن الاستثمار الحقيقي للدولة يكون في المجتمع، عن طريق الاستثمار في الأشخاص. وأن جميع أفراد المجتمع مهما كانت أعمارهم وظروفهم الاجتماعية، قد يبدعون ويتحولون إلى “قيادييّن وقدوة” في حال تلقوا الاهتمام والرعاية المناسبين والمساعدة على إبراز قدراتهم الكامنة، فالمشردون في الشوارع هم مواطنون مثلنا، قست عليهم ظروف الحياة فقط. كما أنّ المسنين فئة لا تزال قادرة على البذل والعطاء بل والتفوق.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!