-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حجرُ الفلاسفة.. كيف تخلق البنوك الأموال من العدم؟

محمد ذياب
  • 1572
  • 0
حجرُ الفلاسفة.. كيف تخلق البنوك الأموال من العدم؟

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) سورة البقرة (275)

تعدُّ الفوائد على القروض في البنوك التقليدية زيادات ربوية محرمة في الشريعة الإسلامية لدى الغالبية العظمى من الفقهاء والمجتهدين المعاصرين، ولم تعد مسألة حرمتها تثار حاليا بقدر ما تثار مسائل أخرى تتعلق بالبدائل عن سعر الفائدة في البنوك وعن خلق منتجات مالية إسلامية تخلو من الفائدة الربوية.

بيد أن التركيز على مسألة سعر الفائدة دون عمليات البنوك الأخرى غطى على أمر لا يقلّ عنها خطورة وهو عملية “خلق النقود” من خلال الودائع، وهي المسألة التي لازالت تحيِّر كبار العقول حتى الآن بعد أن وقع الجميعُ في شباك هذه الأموال، وتشكّل ما عبَّر عنه براون وإلينهودجسون بأنه “شبكة عالمية من الديون”، وأصبحت الأموال النقدية الورقية القانونية في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا تشكل أقلّ من 5% -حسب أحدث التقارير- من مجمل المعروض النقدي، فيما يتشكل الباقي كله من نقود اشتُــقَّت من الودائع.

بهذه الطريقة استطاع المصرفيون الحصول على ما هو أعظم من حجر الفلاسفة الذي كان يحلم به الخيميائيون قديما من خلال تجاربهم على المعادن الخسيسة لتحويلها إلى معادن نفيسة، وهي تجارب نالت شهرتها حديثا مع قصص هاري بوتر حين يحوِّل السحرةُ معدنا لا قيمة له إلى ذهب، فمن خلال النقود الورقية (fiat money) غير المدعومة بأي غطاء من الذهب، استطاعت الرأسمالية من غير رأس مال كما يسمّيها جوناثان هاسكلوستيانويستليك أن تخترع حجر الفلاسفة من جديد من دون الحاجة حتى إلى المعدن الخسيس أو إلى عناء التجارب الخيميائية المملّة التي يولّد كثيرٌ منها حوادث مؤذية.

ورغم ذلك لا تكتفي البنوك بالأموال التي تخلقها من العدم، بل تقرضها بفائدة ربوية، ومع أن هذه الفائدة ليست هي المصدر الأساسي لثروة المصرفيين، فإن دافيد ستيوارت في مقال له بعنوان “شرور الربا” يرى أن لها دورا مهما هو “التمويه على عملية خلق النقود” فهي “طُعم” تتعمد صناعة المال إلقاءه للجمهور ليكثر حوله الحديثُ بما يضمن انشغال الناس عن الطامة الكبرى المتمثلة في خلق النقود ذاتها من العدم وتملكها من طرف البنوك الخاصة بدون أي نكير بعد أن رسخ علم الاقتصاد العلماني لدى النخب التكنوقراط من الاقتصاديين ومن خلال أقسام علم الاقتصاد أن النقود التي تنشأ كدين هي الشكل الطبيعي للنقود، وأنه لا يمكن تصور أي شكل آخر لها، وقد يكون شبه الإجماع هذا تدريجيًّا عبر عقود من العلمنة الطوعية والقسرية في كل أصقاع العالم.

لم يكن هذا التحول الدراماتيكي في طبيعة النقود ليُخفى عن من شاهده عن قرب، وربما تكون العبارة المختصَرة المنقولة عن رجل الأعمال الأمريكي المشهور هنري فورد خيرَ تعبير على مدى تأثير الطريقة التي يخلق بها النظام المالي والمصرفي النقود على مصير الشعوب إذ قال: “من الجيد أن شعبا لأمة –يقصد الأمة الأمريكية- لا يفهم نظامنا المصرفي والنقدي، فلو فعل ذلك، أعتقد أنه ستكون هناك ثورة قبل صباح الغد”.

إن عمليات الاحتيال البريء -إذا استعرنا عبارة جون كينيث جلبرايث- التي تقوم بها المؤسسات المالية أكبر من أن يتسع لها هذا المقال، ولكن هذا لا يمنع من أن نتحدث عن أخطرها وهي اشتقاق الأموال من الودائع المصرفية لدى البنوك، إذ السمة المميزة لهذه الأموال هي أنها لا وجود لها في الحقيقة لأنها تُخلق من العدم! ويتم “خلقُ” مثل هذه النقود حين يتعامل البنكُ بالشيكات أو عن طريق الخصم من حساب والقيد في آخر. يستخدم المصرفيون والاقتصاديون مصطلح “خلق” عند ملاحظة العملية التي من خلالها يأتي المال إلى حيِّز الوجود، وهم محقُّون في هذه التسمية، فإنّ الخلق يعني صنع شيء لم يكن موجودًا من قبل.

كتبسيط لفكرة خلق النقود نفترض أن شخصا ما يتقدم بطلب لاقتراض مبلغ “س” من الوحدات النقدية من أحد البنوك. يُصدر المصرفي، بجرة قلمه (أو بضغطه على أزرار الحاسوب)، لمقدِّم الطلب أصل المبلغ (المبلغ المقترَض)، أي “يُنشئ” المبلغ المقترَض، هذا المبلغ لا يأتي من حسابات بنكية فردية أو من أموال المودعين كما يعتقد معظم الناس، بل هو نقود في شكل ديون لا أكثر، إذ لا يقوم البنك بإقراض مقدم الطلب أي شيء ملموس (أي الذهب أو الفضة أو النقود الورقية) بل يوفر له “الائتمان”! يحدث هذا بالطبع تحت رقابة البنوك المركزية التي تحدِّد نسبة الاحتياطي من النقود القانونية التي من خلالها تتحدد كمية النقود التي يمكن للبنوك التجارية أن “تخلقها” في شكل ديون. تُسمَّى هذه الطريقة “الصيرفة الجزئية” (fractional banking)، وتسمّى النقود الناشئة عنها “النقود الائتمانية”، ولفهم كيف تنشأ هذه النقود نأخذ هذا المثال: لنفترض أن النظام المصرفي (مجموع البنوك) قد حصل على وديعة من أحد الأشخاص مقدارها 1000 دولار مثلا نقدا (في شكل أوراق نقدية قانونية) وأن النسبة التي حددها البنك المركزي كاحتياط هي 20%، فهذا يعني أنه يتوجب على النظام المصرفي أن يحتفظ بمقدار 20% من الودائع على شكل نقود قانونية (نقود ورقية) تودَع لدى البنك المركزي، وتبقى النسبة الباقية وهي 80% لدى البنك التجاري يشتقُّ منها نقود الودائع بطريقة تشبه السحر، فإذا افترضنا أن جميع الالتزامات في الاقتصاد تؤدى من خلال نقود الودائع دون تسرُّب مصرفي (عن طريق الشيكات أو بطريقة إلكترونية) فهذا يعني أن القروض التي تقدِّمها البنوك سوف تعود إليها بكاملها في شكل “ودائع مشتقة”، وبالرجوع إلى مثالنا فإن البنك الذي استلم 1000 دولار، ووضع  20% منها احتياطا لدى البنك المركزي سيقرض 800 دولار لأحد الزبائن ولنسمّه مثلا الزبون (2) هذا الزبون يقوم بتسديد نفقاته وديونه من خلال هذا القرض، ولنفرض أن الدائن الذي سيستلم منه الأموال هو الزبون (3) الذي بدوره سيقوم بإيداع هذا المبلغ لدى البنك انطلاقا من افتراضنا بأن جميع الالتزامات تُجرى تسويتها بالشيكات وليس بالنقود السائلة (cash)، أي عن طريق الحسابات لدى البنوك، وبذلك يحدث تغيُّر في ميزانية البنك عن طريق الاشتقاق من الوديعتين فيصبح مجموع حسابه 1800 دولار، يتوجب على البنك إيداع خُمسها (20%) لدى البنك المركزي أي 360 دولارا ثم يقرض الباقي من المبلغ النقدي الأول أي 640 دولارا فتصبح ميزانية البنك 2440 دولارا، وتتكرر العملية بالمنطق ذاته حتى تنفد الوديعة الأولى ولا يحدث ذلك إلا إذا بلغت الودائع المشتقة 4000 دولار، وتكون النتيجة أن من بين 5000 دولار في حساب البنك هناك 1000 دولار فقط اقترضها البنك من الخارج بينما تم صنع  الأربعة آلاف المتبقية عن طريق الاشتقاق أي من لا شيء! هذا كله دون الحديث عن الفائدة الربوية التي يفرضها البنك على المقترضين فهي خارج  مبلغ الـ4000 دولار.

وما ذكرناه عن النسبة التي يفرضها البنك المركزي وهي 20% من أجل فرملة البنوك التجارية عن خلق المزيد من أموال الودائع، هي مجرد مثال للتوضيح، وهي نسبة متشددة مقارنة بما عليه الأمر في الواقع الآن إذا أخذنا الحالة الأمريكية مثلا، إذ يرى ديفيد جريبر أن لوبي المال هناك يضغط من أجل إلغاء هذه النسبة بالكامل لتصبح عملية اشتقاق النقود محرَّرة من أي قيد قد يفرضه البنك الاحتياطي الفيدرالي! وهناك تقارير تفيد أنه فعلا قد حدث ذلك سنة 2020 خلال جائحة كورونا إذ خفضت نسبة الاحتياطي إلى الصفر (0 %) عند انشغال الناس بالجائحة، وهذا ما أدى إلى انفجار كبير في خلق النقود لم تعرفه الولايات المتحدة منذ تأسيسها، وكانت النتيجة تزعزع ثقة المجتمع الدولي في الدولار كعملة دولية وبدء تصدع نظام سويت الأمريكي، ولعل هذا الزلزال المالي هو من ضمن الأسباب الأساسية في تأجيج الصراع القائم حاليا بين الدول الناشئة كالصين وروسيا من جهة وبين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الواقعة تحت سطوتها من جهة أخرى، وبهذه المغامرة الأمريكية تكون قد جنت على نفسها براقش.

قد يسأل السائل هنا ما سر سطوة البنوك الخيالية هذه؟ ولماذا لا توجه لها أيُّ إدانة؟

يجيب ريتشارد روبينز بأن سطوة السحر ترجع إلى إجماع الناس على الإيمان بفكرة “النمو الاقتصادي” الذي هو أساس الحضارة الرأسمالية، وفكرة النمو غير المحدود هي الامتداد الطبيعي لفكرة النقود بدون غطاء أو النقود المشتقة من الودائع، مع أن فكرة النموّ غير المحدود تتناقض تماما مع الفرضية الأساسية في علم الاقتصاد وهي فرضية “الندرة”، والرأسمالية من غير رأسمال التي فرضها الغربُ العلماني على العالم تتجاهل تماما فرضية ندرة الموارد ومحدودية قدرة الأرض على تلبية الاستهلاك غير المحدود، وخلق الرغبات التي لاعلاقة لها بالحاجات الحقيقية للإنسان، فغرضُها الوحيد هو الحفاظ على ماكينة خلق النقود الربوية لتعمل دون توقف، لأن من الخصائص الجوهرية لأموال البنوك السحرية أن هذا المال يأتي إلى حيِّز الوجود في كلّ مرة تقرض فيها البنوك ويختفي في كل مرة يتم فيها سداد الدين لها. لذلك إذا حاول الجميع السداد، فإنّ أموال الأمة تختفي. وهذا ما يجعل الازدهار “خطيرًا “، فهو يدمر المال عندما نكون في أمسّ الحاجة إليه ويؤدي إلى الركود، وبهذه الطريقة يخلق الربا ما يسمى في علم الاقتصاد بالدورات الرأسمالية.

ناضل لوبي صناعة المال لتجنب تأثير حالة السحب على ملاءة البنوك حتى ألغي غطاء الذهب بالكامل سنة 1971، وهو يسعى للقضاء على النقود الورقية والاعتماد الكامل على حسابات البنوك وعلى البطاقات الإلكترونية كنقود، حتى لا تكون هناك أي نقود خارج القطاع المالي والمصرفي، وهذا ما يجري على قدم وساق حاليا، وعند اكتمال هذه العملية ستتحول البنوك بالفعل إلى سفن غير قابلة تماما للغرق إلا إذا غرق معها من في الأرض جميعا، أو يرجع الناس إلى عصر المقايضة.

عندما يتم سداد القروض (أو بشكل أكثر تحديدًا عند سداد أصل الدين)، فإن الأموال تختفي مرة أخرى من الوجود في نظام الاحتياطي الجزئي كما ذكرنا آنفا، ويمكن أن تكون هناك فترات يتقلص فيها صافي عرض النقود. وإذا كانت هناك فترة تحجم فيها البنوك عن تقديم قروض لسبب من الأسباب -كحدوث موجات طاغية من الذعر وعدم الثقة في النظام المصرفي- فإن معدل تدمير الأموال من خلال سداد القروض الحالية يمكن أن يتجاوز معدل تكوين الأموال من خلال تقديم قروض جديدة، وهذا ما حدث في “الكساد الكبير” في ثلاثينيات القرن العشرين، حين كان غطاء الذهب لا يزال موجودا في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد ناضل لوبي صناعة المال لتجنب تأثير حالة السحب على ملاءة البنوك حتى ألغي غطاء الذهب بالكامل سنة 1971، وهو يسعى للقضاء على النقود الورقية والاعتماد الكامل على حسابات البنوك وعلى البطاقات الإلكترونية كنقود، حتى لا تكون هناك أي نقود خارج القطاع المالي والمصرفي، وهذا ما يجري على قدم وساق حاليا، وعند اكتمال هذه العملية ستتحول البنوك بالفعل إلى سفن غير قابلة تماما للغرق إلا إذا غرق معها من في الأرض جميعا، أو يرجع الناس إلى عصر المقايضة.

ظهرت أصواتٌ بل حركات عديدة في العالم تنادي بضرورة إيجاد بديل لخلق النقود بعيدا عما تفعله البنوك التقليدية، فهناك من يدعو إلى أن تتولى الحكومة المنتخَبة ذاتها إصدار النقد وتحاسَب على ذلك شعبيا في حال كانت السياسة النقدية والمالية فاشلة، وهناك من يدعو إلى فكرة الدينار الذهبي في بعض الدول الإسلامية، وهناك من يدعو إلى النقود المحلية بدلا من النقود المعولمة وسيطرة الدولار أو غيره من عملات الدول القوية.

في الأخير يبدو أن الظروف الدولية الحالية بدأت بالكشف عن عورات هذا النظام الربوي الجائر الذي يعاقب الأفراد على تزييف العملة عقوبات مشددة بينما يسمح بالتزييف المؤسسي عن طريق البنوك والمؤسسات المالية الخاصة، لهذا ظهرت أصواتٌ بل حركات عديدة في العالم تنادي بضرورة إيجاد بديل لخلق النقود بعيدا عما تفعله البنوك التقليدية، فهناك من يدعو إلى أن تتولى الحكومة المنتخَبة ذاتها إصدار النقد وتحاسَب على ذلك شعبيا في حال كانت السياسة النقدية والمالية فاشلة، وهناك من يدعو إلى فكرة الدينار الذهبي في بعض الدول الإسلامية، وهناك من يدعو إلى النقود المحلية بدلا من النقود المعولمة وسيطرة الدولار أو غيره من عملات الدول القوية، وغير ذلك من الآراء، وقد دخلت العملات المشفرة أخيرا على الخط لتزيد الأمرَ ضغثًا على إبَّالة (بليّة على أخرى)، ما يحتِّم على صناع القرار التفكير الجدي في مسألة خلق النقود وتداولها في هذا العالم المضطرب، أو بعبارة الأخرى خلق نظام نقدي ومالي عالمي جديد يخلو تماما من الربا، وهو أمر لا يحدث دون التفكير في ذات الوقت في الديانة العالمية التي تسند هذا الوضع الظالم وهي العلمانية الاستهلاكية المحررة من قيود الأخلاق.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!