الرأي

حزب فرنسا الحاكم في الجزائر

الشروق أونلاين
  • 7741
  • 0

ألّف الدكتور عبد الحميد براهيمي كتابا قيّما وثريًّا تحت عنوان: “في أصل المأساة الجزائرية، شهادةٌ عن حزب فرنسا الحاكم في الجزائر (1958 ـ 1999)”، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت سنة: 2001، وهو مَن هو كقامةٍ سياسية وجهادية وأكاديمية، حيث التحق بالثورة التحريرية المباركة سنة 1955 وجاهد ضابطا في وحدات العمليات إلى غاية الاستقلال سنة 1962، عُيّن والياً على ولاية عنابة سنة: 1963، وهو دكتور في الاقتصاد، وكان أستاذا بجامعة الجزائر سنة 1970، ثمّ مديرا لفرع “سوناطراك” بأمريكا سنة 1976، ثمّ وزيرا للتخطيط سنة 1979، ثمّ رئيسا للوزراء بين سنتي 1984 و1988، كما كان عضوا في المكتب السياسي لحزب حزب جبهة التحرير الوطني، الذي استقال منه سنة 1990.

يحتوي الكتاب على: 04 أقسام، و09 فصول..

في القسم الأوّل يتحدّث عن المرحلة التحضيرية للانتقال من الاستعمار التقليدي إلى “الاستعمار الجديد”، عن طريق المشروع الديغولي “الجزائر الجزائرية” المؤسّس على “القوة الثالثة”، والاستيلاء على قيادة جيش التحرير الوطني واختراقه بين سنوات (1958 و1962)، وإعادة تنظيمه والخلاف بين قيادة الأركان العامة والحكومة المؤقتة حول المفاوضات واتفاقيات إيفيان، وتنظيم التبعية في الإدارة والاقتصاد.   

 وفي القسم الثاني يتحدّث عن مشاركة “الفارّين” من الجيش الفرنسي في انقلابي: 1962 و1965 ومنحهم الشرعية في “استقلالٍ ملغّم”، والظروف السائدة في الجزائر بينهما، حيث يشقّ “جيش الحدود” طريقه إلى السّلطة ويحسم الصراع معها بالقوة. 

 وفي القسم الثالث يتحدّث عن استيلاء “حزب فرنسا” على القطاعات الاستراتيجية الرئيسية وتفاقم تبعية الجزائر متعدّدة الأشكال.  

وفي القسم الرّابع والأخير يتحدّث عن توطيد مواقع “الفارّين” من الجيش الفرنسي، وهجومهم للاستيلاء على السلطة بين سنوات 1979 و1988، والتلاعب بالأحداث، إلى الانفجار غير المتوقّع في أحداث أكتوبر سنة 1988، إلى الحديث عن العشرية الحمراء واللطخة السّوداء في تاريخ الجزائر أو حكم الرّداءة بين سنوات 1989 و2000، وتورّط فرنسا وعصبتها في الأزمة الجزائرية.

يتحدث في مقدّمة الكتاب عن الأزمة الخطيرة التي تمرّ بها البلاد، التي ترجع أسبابها الرئيسية إلى “طبيعة النظام نفسه”، نتيجةً لغياب الديمقراطية والحريات والشفافية، وغياب الفصل الحقيقي بين السلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتغذية صراع القوى الضاغطة داخل السلطة وانهيار عامل الثقة، حيث أخذت الأزمة مسارا مأساويا خطيرا بعد استيلاء بعض الجنرالات وهم من “الضّباط الفارّين” من الجيش الفرنسي على السّلطة ومصادرة الحكم في جانفي 1992، التي وضعت نفسها فوق الدستور وقوانين الجمهورية ومؤسسات الدولة، وبالرغم من الهجوم والتصعيد والتشويه والتسميم وخنق الحقيقة.. إلا أن الحقيقة لم تغِب، وبالرغم من التسويق الوطني والدولي أن أصل الأزمة هو “الخطر الإسلامي” الذي  يبرّر إلغاء المسار الانتخابي في جانفي 1992، ويؤصّل للمقاربة الأمنية، إلا أنه تحليلٌ سطحي واختزالٌ مفضوح للأزمة في ثنائية موهومة بين السّلطة والفيس أو بين الجيش والإرهاب، وهو ما يخفي الأبعاد الحقيقية لأصل الأزمة وجوهر المأساة التي تعاني منها الجزائر ورهانات الصراع إلى الآن.                                               

وبالرّغم من الهيبة التي أحرزتها الجزائر عبر مقاومتها المقدّسة وثورتها التحريرية المباركة ضد الاستدمار الفرنسي، وتصاعد منحاها الدولي ودورها في القضايا العادلة عبر حركة عدم الانحياز بعد الاستقلال (في دعم القضية الفلسطينية، وقضايا التحرّر، والتنديد بالتمييز العنصري في جنوب إفريقيا..)، إلا أن العالم بقي مندهشا من حجم الأزمة التي ميّزها تصاعد الرّعب بما يتجاوز حدود العقل، ثم استمرار الأزمة بالرغم من الإمكانات التي تتوفر عليها الجزائر. وفي الواقع فإن أسباب الأزمة معقّدة ومتداخلة وذاتُ أبعادٍ داخلية وخارجية، يتماهى فيها القريب والبعيد بعد سقوط مقاليد الأمور في أيدي أقلية متنفّذة ومرتبطة بفرنسا، هي التي توفّر الرّعاية السّامية للنّفوذ الفرنسي المذلّ للجزائر وإلى الآن.  

 لقد ساهم الجيش والإدارة والمدرسة الفرنسية طيلة 132 سنة من الاستدمار في تكوين وتخريج نُخبٍ جزائرية مرتبطة بفرنسا عبر امتيازات استثنائية جعلتها تحبّ فرنسا وتحرص على مصالحها ووجودها في الجزائر أكثر من الفرنسيين أنفسهم وإلى الآن أيضا.  

 لقد كانت الثورة التحريرية تمثّل أملا كبيرا للاستقلال التام والكلّي، ولكنّ دهاء ديغول، ويقينه بحتمية استقلال الجزائر جعله يتطلّع إلى تأبيد البقاء السياسي والاقتصادي والثقافي لفرنسا فيها، وذلك ببروز “قوة ثالثة” من متعاونين مدنيين وعسكريين موالين لها، بالإضافة إلى تنظيم عمليات تسلّل “الفارّين” من الجيش الفرنسي واختراقهم لجيش التحرير الوطني ابتداءً من سنة 1958، عِبر جيش الحدود بتونس ليكتسبوا “الشرعية التاريخية” وصِفة المجاهدين، ليشرفوا على المؤسسة العسكرية بعد الاستقلال ومن أعلى المستويات، والتي ستتشكّل من “القوّة المحلية”.  

ويؤكد براهيمي أنّ كتابه لا يطال كلّ “الفارّين” من الجيش الفرنسي، ففيهم وطنيون مخلصون التحقوا بالثورة وقدّموا تضحياتٍ حقيقيةٍ ومارسوا مهامّ نبيلة أمثال: محمود شريف (الذي أصبح عضوا في الحكومة المؤقتة)، وعبد الرحمان بن سالم (وكان قائدا في القاعدة الشرقية)، وعبد الله بلهوشات (وكان عضوا بمجلس قيادة الثورة وقائدا للناحية العسكرية الخامسة والأولى وقائدا عاما للقوات المسلحة بين 1987 و1989، ومختار كركب (وكان قائدا لفيلقٍ بين 1960 و1962)، وعبد الحميد لطرش (وكان أمينا عاما لوزارة الدفاع بين 1971 و1978)، والسّعيد آيت مسعودان (وكان وزيرا لعدّة مرّات في عهديْ بومدين والشاذلي)، وعبد النور بقّة (وكان قائدا لفيلق بين 1960 و1962).  

 ولكنّ الحديث يتركّز على الذين لم يلتحقوا بجيش التحرير أو بالجهاد في الجبال، بل التحقوا ـ ولمهامّ محدّدة ـ بجبهة التحرير الوطني وخاصة في تونس. وهي أقلّيةٌ ألهب جوانحها الطّموح المفرط للاستيلاء على السّلطة بالقوة لتحقيق سياسة المسخ الثقافي والحضاري للشعب الجزائري، مستغلّة الصراعات التي هزّت جبهة التّحرير وجيش التّحرير أثناء الثورة وبعد الاستقلال مباشرة، لتتمّ تصفية وتهجير القيادات التاريخية المفجّرة للثورة واستبدالهم بأبطال الاستعمار الجديد، ويمكن تتبّع مصير أحمد بن بلّة وحسين آيت أحمد ومحمّد بوضياف وعبان رمضان وكريم بلقاسم وعبد الحفيظ بوالصّوف وغيرهم لتعرف حجم المأساة في سرقة الاستقلال والانقلاب على الثورة.

يتبع:

 الجزء 02: ديغول واستراتيجية الاستعمار الجديد.. بين “الجزائر الجزائرية” و”القوّة الثالثة”.

هوامش:

*لقد ساهم الجيش والإدارة والمدرسة الفرنسية طيلة 132 سنة من الاستدمار في تكوين وتخريج نُخبٍ جزائرية مرتبطة بفرنسا عبر امتيازات استثنائية جعلتها تحبّ فرنسا وتحرص على مصالحها ووجودها في الجزائر أكثر من الفرنسيين أنفسهم وإلى الآن أيضا.

* أسباب الأزمة معقّدة ومتداخلة وذاتُ أبعادٍ داخلية وخارجية، يتماهى فيها القريب والبعيد بعد سقوط مقاليد الأمور في أيدي أقلية متنفّذة ومرتبطة بفرنسا، هي التي توفّر الرّعاية السّامية للنّفوذ الفرنسي المذلّ للجزائر وإلى الآن.  

مقالات ذات صلة