-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مع المناضل سعد عَبْسي (1 / 2)

حنا بعل.. في عين فكرون..!

محمد عباس
  • 4403
  • 0
حنا بعل.. في عين فكرون..!

شهادة المناضل سعد عبسي المقيم بفرنسا ثمرة لقاءين:- الأول في 30 أفريل 2009 بفضل الزميل والصديق السعدي بزياني.- الثاني في 3 مايو الجاري، وكان أسوة بالأول في حي “جانفيلي” بباريس.

والمناضل عبسي مشهور بمشاركته في تأسيس “الحركة من أجل الديمقراطية” التي أسسها الرئيس الأسبق أحمد بن بلة في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، كما هو مشهور بالخروج المدوي من الحركة بعد سنوات من ذلك..

لكنه قبل هذا وذاك هو من مناضلي حزب الشعب الجزائري، ومن مجاهدي جبهة التحرير الوطني إبان الثورة بكل من الجزائر وفرنسا.. وكانت بدايته النضالية في منطقة زخم نضالي وطني، ما بين خنشلة والخروب مرورا بعين فكرون، وبناء على ذلك تعرف على مناضلين كبار أمثال عباس لغرور والبشير شيحاني والشيخ البيضاوي  وإبراهيم حشاني، كما تعرف بمحتشد الجرف (المسيلة) على الشهيد المكي حيحي، وكان من الذين ساعدوه على الفرار منه..

ولد المناضل سعد عبسي بكْوينين (وادي سوف) سنة 1926، وسط أسرة تتعاطى فلاحة النخيل، وكان والده من مريدي الزاوية التيجانية بالناحية، وقد توفيت والدته وهو في الثامنة من عمره، فنشأ بعد ذلك في رعاية والده الذي أدخله المدرسة الفرنسية، إلى جانب تعلم مبادىء العربية في كتّاب القرية، وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم على يد الطالب الغالي.

 

القسمة.. مدخل للتجارة والنضال!

بقي التلميذ سعد في المدرسة الفرنسية نحو أربع سنوات، ذلك أن مشواره بها توقف فجأة ذات يوم بسبب عملية حسابية بسيطة! فقد طرح المعلم على تلامذته -وهم من مستويات مختلفة لأن المدرسة تتوفر على قسم واحد- تمرينا في القسمة استعصى حله عليهم، وفجأة اهتدى سعد إلى الحل، الأمر الذي أفرح أبناء حيّه وأغضب في نفس الوقت تلامذة حي مجاور، وما لبث هذا التنافس أن تحول إلى خصومة حامية الوطيس، انتهت باستدعاء بعض الأولياء من بينهم والد التلميذ النّجيب الذي يبدو أنه كان “رجل عافية”، ففضل وقف ابنه عن الدراسة تفاديا “لمزيد من المشاكل”! كان الوالد يعمل -بعد مواسم النخيل- بناحية الضلعة في ضواحي مسكيانة (أم البواقي) فاصطحب معه ابنه بعض الوقت.. وشاء القدر أن يتوفى الوالد سنة 1942 فرجع الابن وحيدا إلى مسقط رأسه، حيث مارس أعمالا مختلفة في بداية معترك الحياة الصعب.

وفي بداية 1946 تذكر أحد أقاربه وكان يتعاطى التجارة في بَغايْ (خنشلة)، حادثة “عملية القسمة” فاستدعاه لمساعدته في أعماله.. وهناك بدأت تصله أصداء العمل السياسي الوطني.. الذي كان من أبرز دعاته بالناحية آنذاك الشهيد عباس لغرور، فقد اطلع على منشور لحزب الشعب الجزائري -السري- باسم الزعيم الحاج مصالي المنفي يومئذ في أدغال الكونغو (برازافيل)، يدعو إلى مقاطعة الانتخابات المنتظرة للمصادقة على دستور الجمهورية الرابعة خاصة..

ومن بغاي انتقل في أواخر نفس السنة إلى عين الفكرون (أم البواقي)، حيث اكتشف مظاهر الحياة العصرية من كهرباء وهاتف وماء جار في البيوت، فضلا عن المذياع الذي عرفه بإذاعة لندن التي أصبح مدمنا عليها حسب قوله..

عمل هناك أيضا بمتجر لأحد أقاربه، وكانت المتاجر آنذاك خلايا عفوية للنشاط السياسي، لاتصال الناس عبرها بعضهم ببعض، وتبادلهم المعلومات والأفكار فيما بينهم.. وقد وسع كل ذلك من وعيه، فضلا عن مساهمة صحفية “الزهرة” (التونسية) في ذلك بواسطة الأعداد القليلة التي كانت تتسرب إلى الجزائر..

بيداغوجية الشهيد البشير حجاج

استمر الحال على هذا النحو بعين الفكرون إلى غاية ربيع 1948، عندما حضر الشاب سعد مهرجانا في إطار التحضير لانتخاب أول “مجلس جزائري” (1)، نشطه خطباء من حركة انتصار الحريات الديمقراطية، منهم أحمد بودة من قيادة الحزب الوطني بالجزائر وابن المنطقة محمد الأمين بالهادي البشعادل بمحكمة الخروب (قسنطينة).. وقد أعجب الشاب بخطباء الحركة، لا سيما بودة والهادي الذي كان يجيد الحديث في المشاكل الاقتصادية التي كان الجزائريون يتخبطون فيها.

وفي مساء نفس اليوم، لاحظ مسؤول الحركة بالقرية الطاهر العڤون إعجاب الشاب واستعداده، فسأله رأيه، وأخذ يشرح له الوضع بالجزائر وتحديات النضال الوطني.

وهكذا ما لبث أن وجد نفسه عضوا نشيطا في خلية القرية التي كان على رأسها المناضل رابح مسعي..

عقب ذلك اصطحبه الطاهر العڤون إلى الخروب -مركز الإشعاع الوطني على المنطقة الواقعة جنوب قسنطينة- ليتعرف على مسؤولي قسمة حركة الانتصار ويتلقى منهم مباشرة ما يفيده في مستقبله الناضلي من إرشادات وتعليمات، وكان من مسؤولي القسمة يومئذ الشهيدان البشير حجاج والبشير شيحاني والعربي الخروبي (الطباخ)..

ويذكر الشاهد في هذا الصدد البيداغوجية النضالية البسيطة والعميقة في نفس الوقت لمسؤولي قسمة الخروب يومئذ.. فقد مشى معه حجاج بعض الوقت ليسأله إن كان قميصه خاليا من القمل! فلما أجاب نعم، قال له أنت سعيد إذن فقليلون هم الجزائريون الذين هم مثل حاله!

وسأله من موقعه في متجر قريبه بعين الفكرون إن كان يعرف بؤساء.. فأجاب: فعلا كثيرا ما يأتونني أناس يصارحونني بأن ليس لديهم ما يتعشون.. فطلب إليه أن يساعدهم خفية عن صاحب المحل، أو علانية إن كان من أهل المعروف.

كل ذلك ليعمق لديه الشعور بحالة الجزائريين، وضرورة الثورة على الاستعمار لتغيير تلك الوضعية المحزنة.

كان المناضل الطاهر العڤون يؤهل بهذه الطريقة الشاب سعد لتحمل أعباء مسؤولية النضال الوطني بعين الفكرون، ومالبث فعلا أن تحملها رفقة مناضلين آخرين من المتعلمين، أمثال محمود علاق المتخرج من الزيتونة أسوة بالخذير الأجنف…

غداة الإعلان عن اكتشاف المنظمة الخاصة في ربيع 1950، ساءت علاقته بقريبه صاحب المتجر الذي بدأ يضغط عليه للتخلي عن واجبه الوطني، وبلغ الأمر ذات ليلة على مائدة العشاء بحضور الشيخ محمد العيد آل خليفة، أن طلب منه أن يكتب رسالة يتبرأ فيها من حزبه ويعتذر للانتماء إليه!

طبعا رفض الشاب المناضل ذلك فكان مصيره الطرد فورا، وقد رثي لحاله الشيخ العيد فأتبعه خطوات ليقول له: “الله لا يضيع خلقه” تكفل به الحزب بعد ذلك، أولا للعمل مؤقتا ـ كغطاء ـ في متجر أحد المتعاطفين، قبل أن يفتح له متجرا خاصا ـ وبفضل ذلك استقر بعض الوقت، وأخذ يساهم في أعمال مفيدة دائمة مثل بناء مدرسة ومسجد بعين الفكرون، والمساهمة في التنشيط الثقافي التعبوي كذلك مثل عرض مسرحية “حنا بعل” للشيخ توفيق المدني، بمساعدة المناضل الشيخ مرزوق الإمام والمعلم.

 

منشور وطني.. في سرير “ڤوطاية”!

وقد تفطن منتخب مالطي بالبلدية يدعى “ڤوطاية”  للمغزى العميق لهذه المسرحية، فزار المناضل سعد في الغد ليقول له باختصار: “أتعرف ماذا يعني حنا بعل؟!”..

في بداية ربيع 1952 حضر سعد مهرجانا ضخما بالخروب، احتفالا بزيارة الحاج مصالي زعيم الحزب، في إطار جولة بشرق البلاد  اثر عودته من البقاع المقدسة، ومتابعته أشغال الدورة السادسة للجمعية العامة للأمم المتحدة بالعاصمة الفرنسية، وقد انتهيت هذه الجولة بسكيكدة بقرار عامل قسنطينة طرد الزعيم الوطني من العمالة كلها… وفي منتصف مايو من ذات السنة نفي مصالي من الجزائر كلها، ليوضع تحت الإقامة الجبرية بمدينة “نيور” وسط غرب فرنسا، وقد أبلى مناضلو عين الفكرون (2) البلاء الحسن في التنديد بهذا القرار الجائر، من خلال الترويج الواسع لمنشورات الحزب المطالبة بالإفراج عن مصالي، ويذكر الشاهد في هذا الصدد أن مناضلا من خلية الشباب يدعى قاسى بلغت به الجرأة والحماس إلى حد وضع المنشور فوق سرير المنتخب المالطي “ڤوطاية”! وقد تحرك الدرك إثر هذه الحملة للإفراج عن مصالي، فتعرض المناضل سعد في دكانه للتفتيش، قبل تسليط مسلسل المضايقات الإدارية عليه، ما جعل الحزب يفضل تحويله إلى تبسة حيث عمل بصفة خاصة مع المناضل محمد الهادي الجريدي من مسؤولي قسمة المدينة، وفي تبسة أدركته أزمة الحزب سنة 1954، فأدخلته في حيرة وتمزق رهيب شأن العديد من مناضلي الناحية، وقد وجد نفسه في نهاية الأمر أقرب إلى الجناح المنحاز إلى مصالي الذي كان يضم مناضلين بارزين أمثال حمة العمري وكمال ساكر، بينما انحاز مسؤوله السابق الجريدي إلى جناح اللجنة المركزية للحزب.

وكان المناضل بلقاسم زيناي البيضاوي مسؤول ناحية عين البيضاء قد ساهم في تكريس “انحيازه”، عندما رآه ذات يوم بمحطة الحافلات مهموما، فنزل إليه قائلا: “ارفع رأسك”! وكانت تربطه به علاقة وطيدة، بدليل أن الشيخ البيضاوي شجعه على الزواج، وتم ذلك فعلا في يونيو 1953.

ويروي الشاهد في هذا الصدد حادثة، تنم عن مدى الانضباط النضالي في صفوف حزب الشعب الجزائري، فقد تسلم من الشيخ البيضاوي رسالة لتسليمها إلى شخص معين في موعد محدد، وصادف الموعد ليلة زفافه فما كان منه إلا أن طلب من العائلتين تأجيل الدخلة حتى يتمكن من تسليم الأمانة في موعدها!

(1) انتخب “المجلس الجزائري” في إطار تطبيق القانون العضوي الخاص بالجزائر، والمصادق عليه من طرف البرلمان الفرنسي في 20 سبتمبر 1947.

(2) من هولاء حسب الشاهد: الشيخ مرزوق، بلقاسم شيبان، عبود (الخياط)، علي بوزيدي (الخياط)، أحمد (معلم قرآن)، عمار قسمي، بن حمد الظافري… 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!