-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حواراتنا

التهامي مجوري
  • 1444
  • 1
حواراتنا

يجمع العرب والمسلمون، على أن حجم مشكلاتهم يحتاج منهم إلى الكثير من الصبر والبحث عن القواسم المشتركة لمعالجته، حتى يتمكنون من الجلوس إلى طاولة الحوار أو التفاوض أو التفاهم أو تقاسم الأدوار، ولكنهم وهم يبجثون عن هذه الأطر الجامعة، لا أحد نزل من برجه العاجي ليلتقي مع خصمه او منافسه او شريكه، وكأنهم يتنادون أنْ كل واحد يريد غيره عنده، وأكاد أحزم ان ما توصل إليه الفرقاء في العالم الإسلامي من تفاهمات في بعض قضاياهم، كان بطرق عفوية غير مخطط لها، أو لاقتهم مصالح معينة وأزمات تهددهم في وجودهم، أو بفرض من أجندات أكبر منهم ضمنت لهم الانتقام من خضم لهم أجمعوا على عداوته، كما وقع للمعارضة العراقية سنة 2003، أو لحاجات عاجلة ألجأتهم لذلك من غير تخطيط او تفاهم بينهم.

فالإسلاميون والوطنيون –القوميون- والعلمانيون، لم يلتقوا على مشروع وطني واحد منذ أيام الحركة الوطنية الاستقلالية، إذ بمجرد تحقق الاستقلال، انزوى كل طرف منهم وآوى إلى ركنه خوفا من الذوبان في الآخر والاندثار في ساحات الصراع، ولذلك أسباب موضوعية وذاتية، حجبت الجميع عن رؤية فضائل الجميع.

لا شك أن كل واحد منهم يرى أنه هو المشروع، وانه الأولى بالقيادة والريادة والاتباع، وأولهم السلطة الحاكمة بطبيعة الحال، ولكنهم يغفلون عن أن الحقيقة المطلقة لا يملكها إلا الله وكل ما دون ذلك نسبي واجتهاد وفق تصورات ومبادئ وغايات المجتهد؛ لأن الطبيعة الإنسانية أكثر المخلوقات تقلبا وتغيرا، ومن ثم لا ثابت فيها إلا القيم الأخلاقية، وهذه بدورها نسبية، وغير قابلة للقياس في المجتمعات المتعددة، ولا تضبطها إلا العقود الكلية.

وعليه فإن كل مناضل لا يشعر بهذه الحقيقة، لا يصلح ممثلا لمشروع وطني ناجح، وإنما عليه أن ينمي في نفسه قبول الآخر بما فيه وما عليه، وذلك ضرورة حياتية وضمانا للاستمرار التفاعلي لحركة المجتمع، وليس تكتيكا أو تكرما من القوي والكبير على الضعيف والصغير؛ لأن التسليم بكثرة المتغيرات في المجتمع الإنساني، يقتضي أن الحل والمعالجة والتغلب على المشكلات، لا يكون في مشاريع متضافرة ومتنوعة تشمل جميع القوى الوطنية، ومن ثم فإن الإيمان بضرورة التواضع لكل جهد وطني، مهم جدا مهما ضعفت الجهة التي تتبناه، احتراما له وإشراكا لقواعده النضالية، وتلمسا للصدق والحق والعدل.

ولكن واقعنا بكل أسف، لا ينطلق من هذه الأمور التي أضحت من المسلمات في المجتمعات التي تحترم نفسها، بحيث لا يلجأون إلى الحوار والالتقاء إلا عندما يتعب الجميع وتنهار قواه ويفقد الكثير، وذلك لانقطاع حبل الثقة بين الفرقاء من ناحية، ومن ناحية ثانية لانتفاخ الذات واعتقاد الكمال في اجتهادها، وثالثا التحاكم لأمور غير قابلة للقياس، أي أصول ليست محل إجماع بين الفرقاء، وإنما عليها من الخلاف، أكثر مما على الفروع التي تنبني عليها.

إن هدا الذي أذكره الآن ليس جديدا، وربما تبناه الجميع في خطاباتهمـ وعبروا عنه بألفاظ مختلفة، ولكنهم عند الممارسة يكفرون به وبمسلماته؛ لأن منطق الصراع والإزاحة والإقصاء هو السائد والبارز؛ بل ويغطي على كل شيء.

فعندما يريد الفرقاء الالتقاء على أمر ما، فإن أول ما يبادرون به هو العمل على تشويه الآخر وعلى التشكيك في نواياه، وربما اتهامه بما ليس فيه، وعندما يلتقون، فإن أول ما يبدؤون به الحوار هو الصياح ورفع الأصوات وعرض قوائم نقائص الآخر، وهنا قد يهزم الذي لا يحسن الصياح وصياغة التهم وكيفية الرد عليها، وإذا لم يهزم ويتساوى الطرفان في القدرة على “البوليتيك” فإن الذي يحمل بذور مشروع له علاقة بالسلطة التي هي محل إدانة دائما، هو المرشح للهزيمة مهما كان صدقه ووفاءه لوطنه، ولما يستمر الحوار ولا تظهر غلبة أحد على أحد يستسلم الجميع للبحث عن القواسم المشتركة ولكن بعد ماذا؟ بعد أن “شرشح” الكلُّ الجميعَ، وفقد الجميعُ الثقةَ في الكل الجميع، ننتقل إلى مرحلة جديدة وهي أن الفرقاء بعد مجاهدة طويلة لأنفسهم يكتشفون بعضهم البعض، ويدركون أن ما بينهم من نقاط التقاء أكثر مما بينهم من مساحات اختلاف، وهذا طبعا يكون في مستوى معين في الهيئة الحزبية أو الجمعوية أو الحكومية، أي في القيادة الحزبية مثلا، أو فيمن مارسوا النيابة في البرلمان أو المسؤولية في الحكومة، أو فيمن سافروا واطلعوا على تجارب الدول والشعوب في التغلب على مصاعبهم، فتبقى قناعات القواعد في الهيئات المناضلة، على خلاف ما توصلت إليه القيادة، فيقع الشرخ وتصبح كل هيأة في حاجة إلى حوار داخلي، يؤسس لقناعات مشتركة في الالتقاء مع الأخر شريكا وخصما ومنافسا..، ولذلك نرى أن الانقسامات طالت جميع الهيآت الرسمية والشعبية، انقاسامات أحزاب وجمعيات ومؤسسات السلطة..إلخ، كل ذلك ينبئ بضعف القدرة على إيجاد آليات للحوار، او عدم الاهتمام بها كمصل جامع.

 

وتمنيت لو أن الطبقة السياسية في بلادنا، تدارست فيما بينها تجربة التسعينيات –العشرية الحمراء-، التي انطلقت بمنطق إقصائي استمر سنتين على الأقل، ولم تكن فيه لغة مسموعة إلا لغة السلاح؛ لأن السطلة الفعلية، كما كان يطلق عليها شيخ الحركة الوطنية عبد الحميد مهري رحمه الله، اختارت الحل الأمني في أزمة سياسية، ثم دخل على الخط الخيار العاقل وفرض نفسه، كخيار استراتيجي للبلاد، وهو الحوار والبحث عن مخارج أكثر فاعلية، ومع ذلك تعنت السلطة بقي مصرا على أن يكون هذا الحوار وفق استراتيجية أمنية وليس سياسية، وبحكم ان الخيار العاقل لم يترك له المجال ليعمل عمله الجاد والنافع، وهو لملمة الوضع الجزائري العام؛ لأن القاتل والمقتول جزائريين “ولو كان الجميع مجرمين”، فشل الحوار واستبعد رجاله المؤثرون فيه، وعادت السلطة لمحاورة أطراف من المسلحين ممن كانت تعمل على استئصالهم، وتحقق بعض الخير، على الأقل حقنت الدماء، ولكن الحل الحقيقي الذي كان سيقفز بالبلاد إلى مصاف الدول والمجتمعات الفاعلة، لم يتحقق لأن منطق السلطة دائما هو المعالجات الأمنية، والقضايا الأمية ليست كل شيء، صحيح أن الأمن من الخوف مهم، ولكن خوف لا الخوف من القتل فحسب، وإنما هو امن الخوف عامة أي هو الأمن الاجتماعي العام، ثم إن الإطعام من الجوع أيضا مهم، وليس أقل أهمية من الأمن من الخوف، وهذا لم تتوصل إليه الساحة السياسية بكل أسف، ولا تزال الجزائر مرشحة للإهتزازات لا قدر الله، وواقعها مفتوح على الكثير من الاحتمالات ما دامت الطبقة السياسية لم تتدارك هذه النقائص في مسلمات نضالها السياسي، والسلطة أيضا لم لن ترتق بخطابها إلى مستوى الجزائر الجيوستراتيجي.            

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • إبراهيم

    جيد .. ومن نا فلة القول إن هؤلاء لا يسمعون هذا الكلام حتى ينهكهم الخلاف