الرأي

داء فاروق

هذا الداء هو ليس من الأدواء العضوية التي تصيب هذا العضو أو ذاك من جسم الإنسان أو هذا الجهاز أو ذاك من أجهزته؛ وإنما هو من الأمراض النفسية التي لا تدركها الأبصار ولكن ترى أثرها في سلوك هذا الإنسان أو ذاك.

وإذا كانت الأمراض العضوية تقتصر- في الغالب- على من يصاب بها ولا تتعداه إلى غيره؛ فإن الأمراض النفسية كثيرا ما تتعدى صاحبها، ويكون غيره ضحية لها، إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة.. وما هذه الأمراض إلا ما يسميه شعبنا “العيوب السبعة”، كالكذب، والخيانة، والرشوة، والطغيان، والتبذير، والعمالة..

وفاروق هو ذلك “الملك” الذي قال بلسان الحال ما قاله “أخ” له من قبل بلسان المقال- كما جاء في القرآن الكريم- لقوم استخفهم فأطاعوه: “أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي؟”، وقال: “ما أريكم إلاّ ما أرى”، ولم يكتف بذلك، بل جاء بالقاصمة فقال: “أنا ربكم الأعلى”، معترفا ضمنيا أن هناك “أربابا” صغارا يتخذهم سخريا لتنفيذ ما يملي عليه الشيطان، مثل قارون وهامان.. و (ما) لم يقصصه علينا القرآن..

أراد الأنجليز – وهم كما يقول الإمام الإبراهيمي- “أول الشر ووسطه وآخره” بعدما قضوا وطرهم من “الملك” فؤاد أن يأتوا بوجه جديد لوضعه على “عرش” مصر ليكون لهم عينا وأذنا ويدا ورجلا.. فكان هذا الـ “فاروق” ابن “الملك” فؤاد الذي ورث منه الصفات الخلقية كالبدانة والضخامة وورث منه الصفات الُخلقية التي قد يتورّع الشيطان عن الاتصاف بها كالاستعلاء على الناس، والبطش بهم..

كان فاروق يعلم أن أباه قد أظهر في مصر الفساد حتى صار أفسد من فيها، وطغى وبغى على المصريين مما جعل أكثرهم يدعون عليه أكثر مما يدعون على الإنجليز، فخادع – فاروق- المصريين، وأظهر نفسه كأنقى ما يكون النقاء، وكأتقى ما تكون التقوى، وكأورع ما يكون الورع، وظن السذّج في مصر – تحت تأثير داعية المنافقين والمتملقين والمرتشين وأكاذيبهم – أن هذا الـ “الفاروق” هو “هبة” – كالنيل- لمصر، وأنه لم يخلق مثله في البلاد، وأنه سيطعمهم المنّ والسلوى، ويحقق لكل واحد منهم ما نوى، ويسكنهم العالي ويلبسهم الغالي…

وما هي إلا بضع سنوات من تنصيب فاروق على “عرش” مصر حتى بدأ ينافس إبليس في الفساد، بل غبّر في وجهه وصار كما قال شاعر على لسان شيطان إنسي:

وكنت فتى من إبليس فانتهى… بي الحال حتى صار  إبليس من جندي

ولم تكن له غاية يسعى لها وهدف يبتغيه إلا “السرف والترف والمنكر والبغي (1)“، حتى ظن أنه ما له من زوال.

وبالرغم من ذلك السرف والترف والبغي والفسق.. فقد وجد تافهين وحقيرين أوصلوا نسبه بنسب أشرف المخلوقين وأفضل الأنبياء والمرسلين، كما فعل فيما بعد أكابر المجرمين، وما هم إلاّ كما قال أحمد شوقي في المسمى “الشريف” حسين، منفذّ المؤامرة الكبرى في سنة 1916:

لا ترج () فيه وقارا للرسول فما … بين البغاة وبين المصطفى رحمُ

ولم يكن فاروق من الذين إذا ابتُلوا استتروا؛ بل كان من المجاهرين بالفساد بجميع ألوانه وأصنافه ودركاته، لوم يقتصر فساده على مصر؛ بل فصل معه البحر إلى أوربا التي لو أنطق الله – عز وجل – شوارعها، وملاهيها، وفنادقها لشهدت على فسق فاروق وخلاعته، ولو غُسلت بأقوى مواد التطهير لكي تزول منها روائح فسقه وفجوره النتنة لما طهرت..

وجاء الأجل الذي أجّله الله القوي القاهر لنهاية بغي ذلك الفاجر فقام الجيش المصري – بقيادة بعض الضباط، وصفوا أنفسهم بـ “الأحرار” – بانقلاب على فاروق وطغْمته في 23 / 7 / 1952.

بعد صراع عنيف بين القوى السياسية وبين الضباط “الأحرار”، وبين هؤلاء وبين كبيرهم اللواء محمّد نجيب، الذي كان أنقاهم وأصفاهم من الفساد والطغيان، خلا الجوّ لأحدهم هو جمال عبد الناصر، الذي حسبه بعض الناس هو “الرجل الذي ادخره الله لتنكسف به غمة، وتحيا بفضله أمة، وينصلح به عهد، ويبتدىء باسمه تاريخ.. وإن مصر لترجو منه.. أن يطهّر الحكم كما طهّر الملْك، ويرفع الشعب كما رفع الجيش، ويقيم الدولة والحكومة والأمة على أسس جديدة من الخلق الفاضل، والعدل الشامل، والخير المحض، والعلم الصحيح، والعمل المثمر، لا يثبت عليها دجل، ولا ينفق فيها غش، ولا يتطرق إليها فساد (2)“، وممن حسبه كذلك الأستاذ مالك ابن نبي الذي أهدى إليه كتابه “فكرة الإفريقية الآسيوية” قائلا: “إلى الرئيس جمال عبد الناصر، الرجل الذي تتمثل فيه ثورتان: الثورة السياسية التي أعطت مصر الجمهورية، والثورة النفسية التي تعلن في العالم الإسلامي ظهور القيادة الفنية، التي تستلم مقود التاريخ من أيدي القيادات الفوضوية (3)“..

وقد تبيّن للأستاذ مالك ابن نبي خطأ تقديره هذا فنسخ هذا الإهداء واستبدل به إهداء آخر في الطبعات اللاحقة..

ما هي إلا بضع سنوات عن تلك الثورة حتى بدأ الأمل يخيب، وبدأ الرجاء يذوي، حيث ظهر أكثر أولئك الضباط على حقيقتهم، ورأى الناس أن مصر تخلصت من “فرعون” واحد لتقع في قبضة “فراعين”، في أكثرهم من الجهل أكثر مما فيهم من العلم، وفيهم من الحمق أكثر مما فيهم من الحلم، وفيهم من الخور أكثر مما فيهم من العزم، وفيهم من الوهن أكثر مما فيهم من الحزم، وفيهم من الغي أكثر مما فيهم من الرشد، وفيهم من الخيلاء في السلوك أكثر مما فيهم من القصد، وفيهم من الجحد أكثر مما فيهم من الحمد…

لقد ذاق أحرار الشعب المصري على أيدي أولئك الضباط “الأحرار” وزبانيتهم من العذاب أضعاف ما أذاقهم فاروق وطغمته، وصار الناس يحاسبون على النيات لا على الأقوال ولا على الأفعال، فامتلأت السجون بالشرفاء وأهل الفكر والذكر، وعاث في مصر فسادا أهل الخبث والمكر، وأشاعوا فيها – باسم الفن – الفاحشة والعهر- وحجروا على الناس حرية الرأي والفكر، وقالوا لهم ما نريكم إلا مانرى، وسرقوا الأموال، ونهبوا القصور… حتى صار المصريون يرددون قول القائل:

رُبّ يوم بكيت فيه فلمّا    صرت في غيره بكيتُ عليه..

لقد استنّ كثير من الضباط في كثير من البلدان العربية بسنّة ضباط مصر السيئة، فقاموا بانقالابات، وحاكوا المؤامرات، وأكثروا السرقات، وأباحوا الاغتيالات، حتى ضد بعضهم بعضا، وملأوا السجون والمعتقلات بالشرفاء والشريفات، وأذلّوا الكرام والكريمات، وأفسدوا الأخلاق، وأشاعوا الفواحش والمنكرات، وضاقت بسببهم الأوطان العربية بما رحُبت – فكأن هؤلاء الضباط داءوا (❊❊) بداء فاروق.. ولا نملك إلا أن ندعو الله – القوي العزيز – أن يخلص أمتنا من هؤلاء المصابين بداء فاروق وما هم بمعجزيه، وقد أرانا آياته في بعضهم، ونطمع أن يلحق بهم الآخرين إن لم يكن في قدره أن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا لها ويتوبوا منها.

وأما الذي أطلق عبارة “داء فاروق (4)” فهو السياسي المصري مصطفى النحاس، الذي خلف سعد زغلول في رئاسة “حزب الوفد”، ولو أن من تقاليد كتاب “غينيس” تسجيل أفسد الفاسدين المفسدين، وأسرف المسرفين، وأطغى الطاغين، لكان أكثر حكام العرب والمسلمين هم المسجلين في ذلك الكتاب، ولما فاقهم في ذلك أحد من الأولين والآخرين…

.

الهوامش:

1) أحمد حسن الزيات : وحي الرسالة.. 4 / 70

) الخطاب موجّه للسلطان العثماني، الذي كان “الشريف” حسين – حاكم الحجاز – تابعا له.

2) الزيات، وحي الرسالة 4 / 71.

3) مالك ابن نبي: فكرة الافريقية – الآسيوية .. نشر مكتبة العروبة- القاهرة.

❊❊) داءوا: أصيبوا بداء..

4) جريدة البصائر. ع 198. في 4 8 1952. ص 5.

مقالات ذات صلة