-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

رأي مغاربي في الفرنكوفونية

رأي مغاربي في الفرنكوفونية

في عام 1994، استحدث عالم الديموغرافيا الكندي شارل كاستونغي Charles Castonguay المناضل من أجل الفرنكوفونية مصطلح “francotrope” الذي يمكن ترجمته “فرنكو الاتجاه”، وهو يعني أيّ شخص لغته الأم ليست الفرنسية، ولكنه ينتمي إلى ثقافة أو منطقة تربطها صة بهذه اللغة. ويقوم كاستونجي في كتاباته بحثّ أصحاب القرار على اتخاذ الإجراءات الاستعجالية لنجدة الفرنكوفونية. ومن منشوراته في عام 2020 مقال بعنوان “الفرنسية في سقوط حر”. وفي سبتمبر الماضي، وقبيل انعقاد مؤتمر الفرنكوفونية في مدينة جربة (19-20 نوفمبر) كتب مقالا بعنوان “الفرنكوفونية في مفترق الطرق”. وعندما تبحث عن أمثلة “الفرنكوتروب” تجد في رأس القائمة سكان المغرب العربي… بمعنى أنهم الأَوْلَى من غيرهم بالانضمام إلى الفرنكوفونية.

تضخيم أرقام الفرنكوفونية

ليس سرا أن المنظمة العالمية للفرنكوفونية تسعى إلى ضم أكبر عدد ممكن من البلدان إليها، بل تلجأ إلى تضخيم الأرقام لجلب الانتباه. فهي تزعم الآن مثلا أن هناك 88 دولة عضوة، بينما لا نجد سوى 54 بلدا كامل العضوية. واللافت في هذه العملية أن كندا محسوبة 3 مرات كعضوة حسب مقاطعاتها في قائمة هذه المنظمة. كما نجد كاليدونيا الجديدة دولة عضوة في المنظمة بينما هي سياسيا ورسميا تعتبر جزءا من التراب الفرنسي!

ومما يعبر عن وضع الفرنكوفونية ما صرح به الرئيس ماكرون في مؤتمر جربة حين قال: “التحدي الحقيقي للفرنكوفونية اليوم هو أن تحمل مشروعاً لاسترجاع مكانتها، بل للمقاومة والصمود، حتى تجعل من الفرنسية لغة تحتضن الجميع كما كانت سابقاً، وتبرهن على إمكانية التحدث بالفرنسية -ليس بالضرورة في صيغتها الأكاديمية- في أي بلد من العالم، خاصة في القارة الافريقية التي تمثّل الفرنسية لغتها الجامعة”.

يعترف الجميع بأن هناك اهتزازا في التوازن الثقافي واللغوي في العالم بصفة عامة وفي منطقتنا المغاربية بصفة خاصة. وما زاد الطين بلة صعوبة المنافسة أمام الاكتساح الثقافي واللغوي الأنكليزي الذي غزا كل بيت ومدرسة في العالم “فتحولت اللغة الإنكليزية إلى رأس مال في الترقي العلمي والاجتماعي”.

ومن أبرز المؤلفات التي تشرح وضع الفرنكوفونية في شمال إفريقيا والعالم كتاب “الفرنكوفونية: إيديولوجيا، سياسات، تحدّ ثقافي-لغوي” صدر عام 2011 في بيروت، وهو من تأليف أستاذ الفلسفة المغربي عبد الإله بلقزيز. والواقع أن الكتاب يمثل حلقة نقاشية كتب فيها المؤلف حوالي 50 صفحة محللا الوضع، وتاركا بقية صفحات الكتاب لتسعة من كبار المفكرين العرب (من العراق والأردن ولبنان ومصر وتونس والمغرب) للتعقيب والمناقشة. ومن يطلع على فحوى الكتاب دون النظر إلى سنة نشره يخاله وُضع بعد انعقاد مؤتمر جربة الأخير للمنظمة الفرنكوفونية!

يقول الأستاذ عبد الإله بلقزيز في هذا الكتاب: “وإذا كانت فرنسا قد عانت في داخلها –الاجتماعي والثقافي والعلمي- هذا الاكتساح الأنكلوفوني فحاولت جاهدة دفعه بإجراءات ثقافية حِمائية أو بالدفاع عن الاستثناء الثقافي للقيم الثقافية من أحكام التجارة الحرة…، فهي عانت أكثر في مناطق نفوذ لسانها الخارجية، أي في العالم الناطق –كلاً أو جزءًا- بالفرنسية، خاصة في المغرب العربي وبلدان أفريقيا. وزاد حذة معاناتها نجاح البعثات الثقافية الأمريكية والبريطانية في الانتشار والتوسع والترسخ، وإقبال أعداد متزايدة من الممدرسين والموظفين على تعلم الإنكليزية في البلدان المسماة –فرنسيا- بلدانا ناطقة بالفرنسية.

ويواصل ملاحظًا: “إن هذا الخلل الاستراتيجي الذي دبّ في التوازن الثقافي واللغوي، على الصعيد الكوني، لصالح المنظومة الأنكلوفونية، يهدد باستهداف اللسان الفرنسي في مناطق نفوذه التقليدية…، خلل لا يقلّ فداحة –في نظر فرنسا- عن الخلل في التوازن العسكري، أو عن الخلل في التوازن الاقتصادي”.  وأكثر من ذلك فإن “العناية به أعظم عند الفرنسيين لأن الخلل في علاقات الحرب والثورة قُضِي أمره، وما عاد مأمولا استدراكه من قبل فرنسا. ولذا فما تبقى من وُسع وجهد هو مما لا ينبغي صرفه في المعارك الخاسرة، وإنما في المعارك القابلة للكسب ولو جزئيا. واللغة والثقافة –في نظر فرنسا- في جملة هذه المعارك القابلة للكسب”.

الاستراتيجية الفرنكوفونية ومحلُّنا منها

ويشرح الكتاب استراتيجية الفرنكوفونية في المغرب العربي وغيره، بملاحظة أن هذه الاستراتيجية تحركت رسميا وشعبيا تجاه المجتمعات والدول المستقلة سياسيا عن فرنسا، المرتبطة اقتصاديا وثقافيا بها. رسميًا: من خلال ربط هذه الدول بأطر سياسية تشرف عليها باريس، وتتيح لها توجيه السياسات العليا لهذه الدول على النحو الذي يصب نتائجه في تنمية نفوذ فرنسا الثقافي والاقتصادي فيها، ويعزز مركزها في الساحة الدولية. وأما شعبيًا، فيتم من خلال تكثيف نشاط المؤسسات الثقافية الفرنكوفونية في هذه المجتمعات، وبناء روابط وتنظيم مؤتمرات ثقافية فرنكوفونية جامعة للبلدان ‘الناطقة بالفرنسية’، ومن خلال تشجيع الإنتاج الثقافي باللغة الفرنسية، وإحاطته بالحوافز وبالرعاية المادية والإعلامية في العالم الفرنكفوني.

ويشير الكاتب بخصوص منطقة المغرب العربي إلى أن هناك تفاوتا كبيرا بين الإمكانيات الهائلة المتوفرة لدى المؤسسات الفرنكوفونية، والتي تستغلها “في هجمتها الثقافية ضد الثقافة العربية واللغة العربية، والإمكانات الذاتية المتاحة أمام المواقع الثقافية الوطنية الدفاعية”، وأنه “لا خيار آخر سوى الدفاع عن الهوية الثقافية واللغوية للمغرب العربي، وعن سيادته الرمزية المستباحة”.

تُعدّ المنظمة العالمية الفرنكوفونية من “أبرز الأطر السياسية الجامعة في مضمار سياسة إنتاج وإعادة إنتاج شروط التبعية المتجددة لفرنسا من قبل الدول التي استقلت عنها سياسيا”. والمنظمة تؤدي حسب الكتاب أربع وظائف هي:

  1. تكريس التبعية الثقافية واللغوية من خلال دفع هذه الدول إلى تكريس مكانة اللغة الفرنسية في النظام التعليمي وفي الحياة الإدارية؛
  2. تكريس علاقات الارتباط الاقتصادي والسياسي لهذه البلدان بفرنسا الأم، على النحو الذي يحافظ لفرنسا على مناطق نفوذ اقتصادي لها خارج حدودها؛
  3. تشكيل قطب عالمي فرنكوفوني يوازن بين القطب الأنكلفوني (في آسيا وشمال أمريكا وأستراليا وأجزاء من إفريقيا)، والقطب الجرماني (في شرق أوروبا)، ويكون وكيلا للدفاع عن السياسة الفرنسية خارج حدودها؛
  4. تعزيز مكانة فرنسا في الساحة الدولية وفي منظماتها الدولية الكبرى، مثل الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والأممية الاشتراكية، والمؤتمرات الدولية المتوسطية، إلخ.

ومع ذلك يرى المؤلف أن معركة الدفاع عن الانفتاح الثقافي واللغوي على مكتسبات العصر تدعونا في المغرب العربي إلى “التحصيل من اللغة الفرنسية والانتهال من ثقافتها ومن مكتسباتها المعرفية، ولكن لا من باب الإلزام المؤسسي السياسي الذي يجعل لسانها مرجعا للبلاد…”. ثم يلاحظ: “إن الحاجة أمست ملحة إلى الانفتاح أكثر على العالم الثقافي والعلمي الأنكلفوني –في سياساتنا وبرامجنا التعليمية- باعتباره اليوم، وحتى إشعار آخر، العالم الفعلي للثقافة والمعرفة والبحث العلمي، بل العالم الفعلي للاقتصاد والثروة والتكنولوجيا والمصالح.”

ونقرأ في الخلاصة: “لقد مُنعنا طويلا في المغرب العربي من مواكبة العصر وتحولاته المعرفية والتكنولوجية بسبب هيمنة الفرنكفونية، في وقت لم تعد تمثل فيه الفرنسية –في سياق المنافسة العلمية- سوى جزء من الماضي. وعليه فقد آن الأوان ليتحرر المغرب العربي من العوائق اللغوية التي حالت دونه والانخراط في مكتسبات العصر، وأولها الهيمنة الفرنكفونية. آن الأوان له لكي يضع البنى الأساسية لصيرورة اللغة الإتكليزية لغته الثانية –بعد اللغة العربية- في نظامه التعليمي والإداري والاقتصادي كما هو الأمر في معظم بقاع العالم. آن له أن تصبح معركته مع الفرنكفونية عنوانا آخر لمعركته من أجل الانتماء إلى العالمية”. إنه رأي لا غبار عليه في السياسة اللغوية لبلداننا. لكن أين نحن من الإيمان به ومن تحقيقه؟ !

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!