الرأي
الحلقة الأولى

رثاء دمشق: فيروز والخوف

أمين الزاوي
  • 6313
  • 19

حين نزلت بدمشق أول مرة، كان ذلك في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، كان الوصول إليها ليلا وفي ساعة متأخرة، أقمنا في أول ليلة لنا بفندق قرطاجنة، هو الخريف ولخريف دمشق طعم غريب، غبار وهواء حائر ومطر رمادي متقطع. أول ما شدني في أول صباح من صباحاتي بدمشق هو صوت فيروز القادم من مئات أجهزة الراديوهات والمسجلات المفتوحة على آخرها، على عتبات المحلات التجارية ومن بلكونات الشقق أو عتبات البيوتات القديمة أو في الحافلات أو سيارات الأجرة، يبدأ الدمشقيون جميعا يومهم بالاستماع إلى فيروز، لا تُشرب قهوة الصباح بالهيل دون صوت فيروز، هي الصلاة التي يبدأ بها أهل الشام يومهم الجديد وكل يوم جديد.

وأول ما شدني أيضا في دمشق خوف الناس من رجال الأمن المتواجدين في كل مفصل من مفاصل المدينة.

وأول ما أثار انتباهي في دمشق طريقة تحيات الناس لبعضهم البعض، سلام الصباح أو الظهيرة أو المساء، سلام كله شعر وخير وتفاؤل وحكمة وصبر.

ومع أن الأزمة كانت تعصف بالبلد، فلا أرز متوفر ولا مازوت ولا لحم ولا ورق للكتب وللجرائد إلا أن الناس تعيش وتدبر أمرها بعبقرية دمشقية لا مثيل لها.

وأول ما شدني في دمشق أيضا سندويتش الفلافل، أكلة الفقير وعابر السبيل والمجند والطالب، سندويتش بحبات فلافل وباللبن والسلاطة والمرق الأبيض والبساطة وشربة ماء من إبريق زجاجي يتبادله الزبائن وأغنية وابتسامة ودعوات بالخير والأمل.

.

ماء الفيجة وتبرك الدمشقيات والدمشقيين به

وأول ما شد انتباهي كذلك في دمشق معرفة الناس للناس، لا غريب في المدينة، الجميع يعرف الجميع، والجميع يسأل عن الجميع، يقف الواحد أو الواحدة وسط الشارع أو عند المفرق أو في محطة انتظار الباص، فيسأل أو تسال محدثه أو محدثها، دون مسبقات، عن البرد وسعر المازوت والطماطم والخيار وموعد الباص وامتحان طلبة الجامعة وعطب تليفزيون سيرونيكس وجديد التعاونيات، وخبز بيروت المهرب والسمن أيضا.

يتكلمون في كل شيء إلا في السياسة فذلك من المحرمات. للجدار الدمشقي آذان ولليل دمشق عيون لا تنام!!

يتكلم الدمشقي أو الدمشقية بصوت هادئ حضاري وكأنما هو يقرأ محدثه رسالة رومانسية إلا رجال المخابرات هم وحدهم من يتكلم بصوت عال، ناعق وشاذ.

تسأل أي دمشقي أو دمشقية عن شيء، عن شارع، عن محل، عن باص أو عن سيارة أجرة فيعرف من لسانك بأنك غريب، وبمجرد أن يعرف بأنك جزائري يحكي لك حكاية عن أحد من أقاربه الذي كان بالجزائر: فهذا كان له خال مدرس العربية في سوق أهراس، وهذا كان له ابن جار درس في سور الغزلان، وهذا التقى في حفلة عرس مع واحد كان مدرس الرياضيات بباب الواد، وهذا تعرف على جزائري بفرنسا فساعده على الوصول إلى مبتغاه في مترو باريس، وهذا له صورة لجميلة بوحيرد، وهذا لا يزال يحتفظ بصورة تعود لأبيه صورة كان يعتز بها كثيرا لأحمد بن بلة مع عبد الناصر، وهذا يحب أغنية “وردة بيضاء” لرابح درياسة، وهذه تبرعت جدتها بخاتم خطبتها للثورة الجزائرية، وهذا كان جده شاعرا كتب كثيرا من القصائد للثورة الجزائرية وهذا… جميع الدمشقيين لهم حكاياهم مع الجزائر يروونها بحب وإعجاب.

كانت أشرطة الشيخ إمام عيسى ومارسيل خليفة وخالد الهبر ممنوعة، ولكن الجميع يعرف بأنها تباع منسوخة بطريقة غير شرعية ومقرصنة، تباع من “تحت لتحت” في مكتبة ميسلون، هي مكتبة الكتاب التقدمي التنويري، ومع أن الأشرطة كانت ممنوعة إلا أنها كانت تسمع في سهرات المثقفين وكأن الأمن كان يغض الطرف عن ذلك، إلى حين!!

كان شارع الصالحية، واسمه الرسمي شارع جمال عبد الناصر اسم لا يعرفه أحد، على بساطته يتزين في الليل بكثير من المصابيح الملونة المعلقة عند أبواب المحلات أو على الأشجار فيخلق نوعا من الهالة لشارع شاخت عماراته ويعطيه حركية وبهاء، وفي هذا الشارع الصغير تخرج الشاميات بكل زينتهن للمشي عند المساء، هي عادة الغزل الدمشقي.

غير بعيد من “كولابة” رجال الأمن، قنديل بائع الذرة المشوية ينير فيثير من حوله حالة من الرومانسية العالية وصوت أم كلثوم أو صباح فخري أو ميادة حناوي يعلو فيصبغ الليل بسر غريب، والذرة المشوية تأخذ جلالا آخر.

.

ومع ذلك يشعر الناس بالخوف يحاصرهم من كل الجهات.

هذا الصباح وعلى رأس الشارع، تقف عربة بائع اللوز الأخضر الحامض الذي يؤكل كما تؤكل السلاطة، ما بين لحظة وأخرى يرفع صوته بأغنية قبل أن يعود إلى الاستماع إلى صوت موسيقى عبد الحليم حافظ أو نجاة الصغيرة القادم من جهاز تسجيل فيليبس مشدودة بطاريته بمطاط وخيطين.

ولأن لا موزع بريد في المدينة، أو على الأقل لم أره في حياتي يجوب الشوارع أو يدق البيوت، فقد أجرت صندوق بريد في بناية البريد المركزي، كانت العادة أن أذهب كل يوم الساعة الواحدة لتفقد بريدي، باستثناء يوم الجمعة، ما كان يدهشني وأنا أعبر الشارع أمام واجهة سينما العباسيين، هي أفيشات الأفلام التي تعرض في هذه القاعة، كانت قاعة معروفة بأن ما يعرض فيها من أفلام هي للمجندين، وأغلبها كانت أفلام فهد بلان وسميرة توفيق وهيام يونس وأبو عنتر ودريد لحام

مع ذلك هناك خوف في المدينة وفي القلوب!! والناس مرعوبة وكي تنسى آلامها تخمد بعضا من نار توترها في الاستماع إلى الموسيقى وفي تنظيم سهرات مع الأصدقاء والخلان والمشروب.

للفرن الدمشقي في ساحة القصور أو في العدوي أو في الحريقة أو في عين الكرش أو في سبع بحرات أو شارع بغداد، لفرن دمشق طقوس لا تشبهها طقوس، الناس تشتري الخبز، تتناوله ساخنا ملتهبا من صاحب الفرن، فتبسطه ليبرد دون حرج أو تردد على سور منخفض أو على الرصيف أو على درجات سلم عمارة أو عند جذع شجرة… أمام الفرن الجميع في طابور منظم، النساء والرجال والشباب ، كل الأعمار، لا أحد يقفز على دور الآخر، إلا أن استثناء واحدا يعكر هذا الاحترام والتنظيم، إنهم رجال الأمن بكل أصنافهم، وحدهم من يمر دون اعتذار ودون احترام الدور، الناس لا تتكلم من الخوف ولكنها تتذمر من سوء الأدب وسوء السلوك.

.

كل ما يرمز إلى السلطة مخيف في دمشق!!

ورائحة خبز فرن كان وسط شارع الصالحية لا تنسى، للأنف ذاكرة الشم!! كنا حين نغادر بيت الكاتب الفلسطيني الصديق محمود شاهين صاحب المجموعة القصصية المتميزة “نار البراءة” والذي كان عازفا ماهرا على الناي، حين نغادر بيته الموجود في ساحة عرنوس، نمر بفرن بشارع الصالحية فنجد” أبو أحمد “في كامل أغنيته ونشاطه وخيره والصباح قد بدأ في الطلوع. كان صوته جميلا وخبزه أجمل.

في دمشق قد ينام الخلق جميعهم ولو متأخرين إن قليلا أو كثيرا إلا رجال المخابرات لا يغفو لهم رمش.

.

الحلقة القادمة……. الأصدقاء

مقالات ذات صلة