الرأي

رحلة ميمونة

كان أحد الإخوة يقول: من أحسّ انخفاضا في منسوب الوطنية عنده وفراغا في بطاريتها، فعليه أن يشد الرحال إلى مشرق الجزائر لشحن هذه البطارية ورفع منسوب هذه الوطنية، فيتبسّم من حوله من قوله، ويردّ بعضهم قائلا إن كل قطعة في هذه الجزائر الغالية تفور وطنية وإيمانا. وفي نهاية الأسبوع الماضي قمت – صحبة الأخ الفاضل محمد غازي بوشامة– رحلة إلى بعض نواحي الشرق الجزائري، مبتدئا بقسنطينة، منتهيا بقالمة وخنشلة… أما قسنطينة الساحرة بواديها وجسورها وأهلها فقد توجهت إليها تلبية لدعوة كريمة من أخ كريم هو الدكتور محمد بوركاب للمشاركة في النشاط الهادف الذي يقوم به في كل عام في المسجد الذي يؤمُّ فيه الناس أيام الجمع، وهو مسجد أبي موسى الأشعري، ومن فعاليات هذا النشاط مسابقة حفظ القرآن الكريم.
كان الموضوع الذي عهد به الأخ بوركاب إليّ هو تذكير الحاضرين باهتمام الجزائريين قديما وحديثا بقطعة غالية من أرض المسلمين، وهي فلسطين المجاهِدة، ودُرَّتها القدس الشريف المبارك، وكيف لا تُشّد الرحال من أجل نصرة فلسطين ولو باللسان، إعدادا واستعدادا لتحريرها بالسّنان في أقرب الأزمان، بمشيئة الديان.
لقد أعجبني اهتمام الأخ بوركاب بمثل هذه القضايا الكبرى الجامعة للمسلمين، مبتعدا عن إثارة المسائل الفرعية، حيث يكمن الشيطان، وتُثار الفتن بين المسلمين، وهي أشدُّ من القتل.. كما يفعل بعض “الدعاة” الذين يزكُّون أنفسهم ويزيدون الطين بلة والداء علة، وقد كان الإمام ابن باديس – رحمه الله – يحذر من كل “متفيقهٍ”، “يحتكر” الجنة له ولمريديه..
لقد ذكرت بما علمت بقضية فلسطين في ضمير كل جزائري شريف، لأنها قضية دينية أولا وقبل كل شيء، ولأنها قضية حق اغتصب يجب استعادته طال الزمان أو قصر، وهي تذكِّر الجزائريين بأيام محنتهم عندما جاءها الأنذال الفرنسيون ليُخرجوا أهلها من أرضهم وديارهم..
وقد ركزت على مجهودات جمعية العلماء المسلمين في تحسيس الجزائريين بهذه القضية، وأشرت إلى تأسيس لجنة لمساعدة فلسطين، وإلى الجزائريين الذين نفروا لنصرة إخوانهم الفلسطينيين، مجسدين مبدأ الأنصار في الإيثار، ولم أنس التذكير بفِرقة الأمير عبد القادر التي شكلها حفيده الأمير سعيد من المهاجرين الجزائريين في بلاد الشام الكبرى..
وكان آخر ما ذكرت به هو دور الدولة الجزائرية في تكوين وتدريب طلائع الجهاد الفلسطيني وهي في بداية استرجاع استقلالها، مستندا في ذلك إلى مذكرات كل من الأخوين محمد مهري (المجاهد والمحامي) والطاهر الزبيري قائد أركان الجيش الوطني الشعبي الأسبق.
وبشّرت في الأخير بأن فلسطين ستعود إلى أهلها- المسلمين – بعد أن يغيروا ما بأنفسهم فيغير الله – عز وجل – ما بهم. وذكرت بما يعيشه الكيان الصهيوني من مشكلات داخلية ستُنهي – عاجلا أو آجلا– وجوده، لأنه كيان مُختلَق كما يؤكد كثير من الباحثين بمن فيهم صهيونيون.. وأهم هذه المشكلات انعدام الانسجام لهذا الكيان الذي هو أمشاج من أكثر من ثمانين شعبا، وانعدام السُّمك التاريخي، وهذه الحقيقة هي التي عبّر عنها الإمام الإبراهيمي بقوله: “إن غرس صهيون في فلسطين لا ينبت وإذا نبت فإنه لا يثبت”. (آثار الإبراهيمي 3/444).
وقد سعدت قبل هذا النشاط بزيارة مؤسستين تربويتين خاصتين هما مثال في العمل التربوي الأصيل والعصري والانضباط، وهما “مجمع الأندلس” و”معهد الشيخ البيضاوي للعلوم الشرعية”، وهما حجة بجدية القائمين عليهما على ما يسمى “مدارس، وثانويات، ومعاهد..” وليس لها في أغلبها من ذلك إلا الاسم، وأدعو للقائمين على “مجمع الأندلس” و”معهد البيضاوي” بالنجاح والتوفيق في مهمتيهما النبيلة.
وبعدما تبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من يوم الخميس 3/5/ ودّعنا قسنطينة وتوجهنا تلقاء مدينة قالمة، وكانت المناظر الطبيعية الخلابة تذكرنا ببيت الشاعر البحتري القائل:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما
كان الداعي لزيارة قالمة هي شعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بها، لإحياء ذكرى تأسيسها السابعة والثمانين، والذكرى الثالثة والسبعين لجريمة فرنسا “أم الجرائم” في 8 ماي 1945، والمشاركة في الملتقى الوطني الأول لإحياء ذكريات أربعة من أولى العلم والفضل والوطنية: الشيوخ الحفناوي بديار، وبوراس الكاملي، والمولود مهري، وعبد الله بلمحجوب..
لقد كان ألمُنا كبيرا لأن أمثلنا لم يكن يعلم شيئا عن سيرة ومسيرة هؤلاء، اللهم إلا ما كتب عن الشيخ بوراس الكاملي، وكلمات هنا وهناك عن الشيخ المولود مهري.. وقد سمعنا كلاما طيبا عن جهود هؤلاء العلماء في نشر الإصلاح الديني، والوعي الوطني.. وبعضهم أعِدت عنهم رسائل جامعية تدل على علو كعبهم، وواسع عامهم، ومتانة وطنيتهم، التي لم يمنّوا بها على وطنهم ومواطنيهم، وإنما هي “واجبٌ شرعي” يقوم به الأبرار، ويخونه الفجار، ويمنّ به الأشرار.. لا يمكن للإنسان الجزائري الشريف أن يكون في قالمة ولا يتذكر ما ارتكبه الفرنسيون الجبناء الذين فروا كالجرذان أمام الألمان، ثم استأسدوا على شعب أعزل في 8 ماي 1945.. فقتلوا من قتلوا وسجنوا من سجنوا.. وأحرقوا ما أحرقوا من جثث بشرية وحيوانية وممتلكات… وذلك “مجد” فرنسا.. الذي “تفتخر” به، ويشاركها فيه أذنابُها في الجزائر.
لقد خلّد هذه المجازرَ الفرنسية الأدبُ الشعبي، وأسماء المؤسسات: “الجامعة”، والشوارع، والساحات، كما خلّدها الأدب الفصيح، ومنه ما جاء في إلياذة مفدي زكرياء:
وقالمة تزهو بحمّامها يُهدهد معسول أحلامها
يشيع البخار تباريحها ويشكو مواجع آلامها
ويرجف بركانها ساخطا فيمسح صناع آثامها
وياتربة أغرقت في الدماء هواتك حرمة أرحامها
ويا بلدة عصفت باللئام، وحمق فرنسا وحكامها
ولفّت شرارتها أشيا ري (1)، وكان عدوّا لإسلامها
وفار بتنّورها كاربنال (2) فأصبح كاربون حمّامها
وكانت وِجهتنا الثالثة هي مدينة خنشلة، التي وصلناها عند مغرب يوم الخميس، وذلك للمشاركة في “ملتقى الأوراس السادس”، الذي خصص في هذا العام للحديث عن “مشكلات الشباب الجزائري، تشخيصا وعلاجا”.
لقد كان ملتقيَا قالمة وخنشلة نموذجا لنشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي يعيش أعضاؤها في وسط الناس، ويهتمُّون بقضايا الوطن ومشكلاته الحقيقية، فلا ينشغلون بالترف الفكري، ولا يشغلون الناس بما يفتن العوام من قضايا لم تضف للفكر الإسلامي أيَّ قيمة، بل كانت على الأمة وبالا، وأهنت قوتها، وفرَّقت شملها، وصدّعت صفها، وشتّتت كلمتها، فذهبت ريحُها، فاستولى عليها من لا يرقب فيها إلاًّ ولا ذمّة، وصيّرها “أذل من الوتد”.
إن هؤلاء الذين “يُفسِّقون جمعية العلماء ويبدّعونها هم أشد خطرا عليها من أولئك الضالين المنحرفين دينيا ووطنيا؛ فبدلا من أن يكونوا في صف الجمعية لمواجهة هؤلاء، لا نجدهم إلا وراء مواقع التواصل الاجتماعي، يحيون الأمور المختلَف فيها، ويهتمُّون بالجزئيات، ويقعون في أعراض الأبرياء.. مزكِّين أنفسهم، ظانين أنفسهم على شيء، ناسين أو متناسين أنه لولا جهود جمعية العلماء، وعلى رأسها الإمام العامل عبد الحميد ابن باديس لكانوا اليوم “رعاة خنازير الفرنسيين”.
ولكأني بالشاعر العربي عناهم في قوله:
أعلِّمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني
شكرا للأخوة الفضلاء في كل من قسنطينة وقالمة وخنشلة على نشاطهم الجاد، وعلى ترفُّعهم عن سفاسف الأمور، وعلى جميل صبرهم على أعمال السفهاء، وتصرفات اللؤماء، وعلى دعوتهم، وكريم ضيافتهم، وحسن استقبالهم، وما ذلك بالمستغرَب منهم.
“وقل اعملوا فسيرى الله عملكم، ورسوله، والمؤمنون”، وهدانا الله لما يرضى من القول والفعل..

1 و2) آشياري وكاربونال، مجرمان فرنسيان كبيران، فعلا الأفاعيل في 8 ماي 1945 في أهلنا في قالمة.. والحقيقة هي أن لكل بلدة ومدينة وناحية في الجزائر آشيارها وكربونالها. فلا تنسوا ذلك أيها الجزائريون، وإن نسي بعضُ “كبرائكم”، وصار الفرنسيون أحبَّ إليهم من أنفسهم ومن أخلص مواطينهم.

مقالات ذات صلة