-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

زلزال تركيا – سوريا دروس وعبر

سلطان بركاني
  • 2008
  • 0
زلزال تركيا – سوريا دروس وعبر

زلزال مدمّر، هزّ فجر الإثنين الماضي جنوب تركيا وشمال سوريا، بلغت شدّته 7.8 درجة على سلم ريشتر، تبعته هزات ارتدادية بعضها شديد.. تعداد من قضوا تحت الأنقاض جاوز 22 ألفا، نحسبهم من شهداء الآخرة السّعداء.. بموازين الدّنيا فإنّ ما حلّ بإخواننا هناك مصيبة وفاجعة عظيمة، لكن بموازين الآخرة نحسب أنّ الله أراد بهم خيرا؛ اتخذ منهم شهداء، وأخرج الدّنيا من قلوب من بقي منهم أحياء.. أهل الشام الآن قلوبهم معلقة بالله وحده، بعد أن خذلهم القريب، وشمت بهم البعيد، وتتابعت عليهم المحن والنكبات، كأنّهم يهيؤون لأمر عظيم.
أهل الشّام نحسبهم اصطُفوا ليعطوا الأمّة دروسا بليغة في الإيمان والثّبات، بين يدي فتن آخر الزّمان. يقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: “ألا وإنَّ الإيمانَ حين تقعُ الفتنُ بالشَّامِ” (تاريخ دمشق لابن عساكر).. انشغلنا بمآكلنا ومشاربنا وشهواتنا، بل وانشغلنا بلهونا ولعبنا، ونسينا محنة إخواننا السوريين التي دخلت عامها الثاني عشر، وكان حصادها مئات الآلاف من الضحايا والملايين من المهجّرين.
كم كانت محزنة، بل مبكية، كلمات ذلك السوري الذي خاطب المسلمين قائلا: في هذا الزلزال، كنا ننتظر أن تفتحوا المعابر وتهرعوا لتمدّوا يد المساعدة لإنقاذ أبنائنا الذين يئنّون تحت الأنقاض، ولكنّكم تأخّرتم حتّى انقطع الأنين، أمّا الآن فلدينا الوقت الكافي لننتشل جثث أبنائنا بعد أن قضوا تحت بيوتنا المهدّمة.

إلى ديّان يوم الدين نمضي * وعند الله تجتمع الخصوم
صور الجثث التي تنتشل من تحت الأنقاض يتفتّت لها الحجر، ويفترض في عيوننا أن تبكي لها بدل الدّمع دما.. أمهات وآباء قضوا نحبهم وأسلموا الأرواح إلى بارئها وهم يحتضنون أبناءهم وفلذات أكبادهم.. صور ومقاطع تزلزل الأرواح وتقرع القلوب بحقيقة هذه الدّنيا التي جعلتنا ننسى نعمة الله في اجتماع شملنا في بيوتنا. نعمة لم نقدرها حقّ قدرها، حين شغلتنا عنها الهواتف ومواقع التواصل الاجتماعيّ، حتّى أصبح أفراد الأسرة الواحدة لا يكاد يكلّم بعضهم بعضا إلا قليلا، كلّ فرد منهم منشغل بهاتفه وعالمه الافتراضيّ. يجلس الأب المسكين لا يكلّمه ولا ينظر إليه أحد، وتمكث الأمّ حسيرة كسيرة تتلهّف لكلمة حانية من ابنها أو ابنتها!
إخواننا في سوريا رغم كلّ الآلام فهم صابرون وصامدون صمودا عجيبا لا يقوى عليه إلا من يهيئه الله لأمر عظيم.. قدّموا دماءهم لتفيق الأمّة من غفوتها، لكنّ الأمّة -مع كلّ أسف- لا تزال في سباتها.. وها هم يعطوننا مع إخوانهم في تركيا في المحنة الأخيرة أروع الدّروس وأكثرها تحريكا للقلوب وهزا للأرواح، لعلّنا نراجع أنفسنا وعلاقتنا بديننا وأمّتنا.
نبدأ بالدرس المؤثّر الذي سطرته امرأة تركية لنساء وبنات المسلمين في العالم، حينما وصلت إليها فرق الإنقاذ فوجدتها على قيد الحياة، فطَلب منها بعضهم أن تخرج، لكنّها رفضت الخروج من تحت الأنقاض حتى يعطوها خمارا تضعه على رأسها.. في الوضع الذي كانت فيه يباح لها أن تتعجّل الخروج من تحت الهدم حاسرة الرأس؛ لأنّها لا تأمن أن تسقط عليها الجدران في أيّ لحظة، ولكنّها أبت إلّا أن تستر نفسها قبل ذلك! لماذا؟! لأنّها لا ترى في الحجاب قطعة قماش توضع على الرّأس للتخلّص من اللّوم والعتَب، لكنّها تراه جزءًا من بدنها وروحها، فلله درّها؛ قدّمت درسا يكتب بحروف من ذهب للمسلمات اللائي يتقلّبن في نعم الله، ومع ذلك تجد عندهنّ من الإصرار على التبرّج ورفض الحجاب الشّرعيّ ما يحيّر العقلاء! تجد المسلمة في أمن وعافية، في وسعها أن تلبس ما تشاء، لكنّها تختار الضيّق وما يعجب النّاس وتهتمّ بنظر المخلوقين وتنسى نظر خالقها الذي سلّمها وعافاها!
درس آخر قدّمه شيخ سوري قضى 40 ساعة تحت الأنقاض، وصلت إليه فرق الإنقاذ، وقبل أن يَتمّ انتشاله من تحت الركام، طلب الماء ليتوضّأ في ذلك الجوّ البارد، فلمّا قالوا له: إنّك معذور في وضع لا يسمح لك بالوضوء. ألحّ على أن يحضروا له الماء.. درس أبلغ من دروس الدعاة والأئمة والوعاظ، قدّمه هذا الشّيخ السّوريّ للمسلمين الذين يستهينون بصلاتهم ويؤْثِر الواحد منهم دفء الفراش على القيام بين يدي الله، ويتعلّل بالبرد ليؤخّر صلاته. مسلمون ينعمون بالأمن والأمان، ويتوفّر لديهم الماء الدّافئ في بيوتهم ومساجدهم، ومع ذلك يؤخّرون الصّلاة ولا يعبؤون بأوقاتها!
درس آخر سطره تاجر تركي مسلم، يملك بقالة كبيرة للمواد الغذائية، حينما حصل الزّلزال، فتح أبواب محلّه، ونادى في النّاس ورفع لافتة كتب عليها: “خذوا كل بضاعتي للمتضررين، ولا تتركوا منها شيئاً”. كان في إمكانه أن يفعل كما يفعل من ملأت الدنيا قلوبهم ممّن يستغلّون الأزمات لرفع الأسعار وكسب مزيد من الأرباح، لكنّه آثر ما عند الله، نحسبه كذلك. لسان حاله: ((قل مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ))، ((مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)).
حُقّ لنا ونحن نتابع المواقف المؤثّرة التي تحملها إلينا عدسات الكاميرات من سوريا وتركيا، أن نستحضر قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد: 38).. إذا كنّا في بلادنا الآمنة منشغلين بحظوظنا الدنيوية الفانية، فإنّ لله عبادا في أرض الشّام يحملون همّا آخر يناطح السّحاب، همّهم أن يرضى عنهم ربّهم، الواحد منهم يبتلى في ماله وأهله وكلّ ما يملك، فلا تسمعه إلا وهو يقول: “ألف حمدٍ لله”.
ما حلّ بإخواننا في سوريا وتركيا، نحسبه بلاءً نزل بهم، ليهيؤوا لأمر عظيم، ونحسبه خيرا لهم في الآخرة، وهو نذير لنا نحن الذين نمتّع بالأمن والأمان والعافية وكفاية العيش. ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾.. وهو أيضا ابتلاء لنا وامتحان، هل نشعر بمصاب إخواننا المسلمين؟ هل نتداعى لهم بأموالنا ودعواتنا؟ هل ننسى الحدود التي تفصلنا عنهم أمام رابطة الدّين؟ من حقّ إخواننا في سوريا خاصّة أن نبذل لهم المساعدات، ونحن نثمّن المساعدات التي قدّمتها بلادنا الجزائر، لكن من حقّ إخواننا في سوريا كذلك أن نسعى لرفع الحصار الظّالم المضروب عليهم، ووقف الحرب الجائرة المسلّطة عليهم.
الزّلزال الأخير هزّ الأرض من تحت إخواننا في تركيا وسوريا، ويفترض أن يهزّ قلوبنا، ويردّنا إلى ديننا، ويخرج الدّنيا من قلوبنا.. هذه الأراضي والمساكن التي يعادي بعضنا بعضا لأجلها لن تدوم لنا، ولن ندوم عليها؛ إن سلمت لنا فلن تدوم سلامتنا عليها وفيها.. زلزال مفاجئ سيجعل مساكننا أنقاضا وركاما وأثرا بعد عين.. أحد الناجين من الزلزال الأخير، كتب يلخص حقيقة الدنيا، فقال: “قبل أيام، طردني مالك البيت بعد أن طالبني بزيادة مجحفة في الإيجار. حدث الزلزال. الآن أنا ومالك البيت نتدفأ بنفس النار في خيمة الإيواء”.. أحد الآباء في تركيا، كان آمنا مطمئنا في بيته مع أهله وأبنائه. ضرب الزّلزال فجأة، بدأ البيت ينهار.. أغمي عليه.. وعندما استفاق، وجد نفسه تحت الأنقاض وأسرته كلها ماتت وبيته انهار على كل ما يملك.. نام وعنده كلّ شيء، وعندما استيقظ لم يجد شيئا! مشهد عاشه الآلاف في تركيا وسوريا؛ ما كانوا قبل لحظة الزلزال يتوقّعون أنّه سيحصل لهم ما حصل، حتّى أنّ أحد النّاجين في سوريا، جعل يبكي وينظر حوله ويقول: يا ربّ أرجو أن يكون هذا حلما!
ينبغي لكلّ واحد منّا أن يتذكّر أنّ كلّ يوم يصحو فيه وهو في عافية، وأهله وأبناؤه حوله بخير حال، وبيته سليم دافئ في برد الشّتاء، وعنده متاعه وطعامه، هو يوم يستحقّ أن يحمد الله في صباحه بقلبه وجوانحه وعروقه قبل لسانه. يقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “إذا استيقظ أحدكم فليقل: الحمد لله الذي عافانى في جسدي، ورد علي روحي، وأذن لي بذكره”.. ينبغي لكلّ واحد منّا وهو يرى ما حلّ بإخوانه، أن يستذكر بقلبه وعقله قول حبيبه المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام-: “من أصبح معافًى في بدنه، آمنا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!