-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

سقوط حلب وأوهام حسم الصراع

حسان زهار
  • 6198
  • 0
سقوط حلب وأوهام حسم الصراع

بدأت جوقة واسعة من أنصار النظام القاتل في دمشق، في عزف سيمفونية حسم الحرب في سوريا عقب الهجمة الشرسة الأخيرة للعدوان الروسي وميليشيات إيران الطائفية على حلب الشرقية، وتجاوزوا، مقولة “خلصت” التي طالما تم الترويج لها السنوات الماضية بلا طائل، إلى حدود التهديد بتوجيه الميليشيات الطائفية الإيرانية بعد سقوط كامل سوريا، والانتهاء من معركة الموصل العراقية، إلى احتلال مكة والمدينة المنورة، وكامل السعودية ودول الخليج تمهيدا لإخضاع باقي العالم الإسلامي تحت وصاية الولي السفيه في طهران.

وأعجب العجب، أن هؤلاء القائلين باقتراب سقوط أعرق المدن العربية حلب ذات 12 ألف سنة من التاريخ المجيد، في أيدي ميليشيات طائفية واحتلال روسي حاقد، يتحدثون عن معركة وكأنها بين دولتين عظيمتين، وليست حرب إبادة مروعة يشارك فيها العالم كله تقريبا، إما بشكل مباشر أو عبر الصمت والتواطؤ ضد شعب عربي مسلم أعزل، ويقودها أكثر القوى الدولية والإقليمية والمحلية خسة ونذالة، ما يجعل كل هؤلاء الأدعياء عراة من أي إنسانية وهم يتلذذون بنهش أجساد النساء والأطفال في شوارع المدينة العتيقة، كما تفعل الكلاب الجائعة.

وللتدليل على أنها معركة قوى الشر كله، ضد شعب كل جريرته أنه طالب بالحرية والانعتاق من ربقة الطائفية والأقلوية والفئوية اللعينة، من المهم التدليل على أن روسيا حشدت معظم قواتها الجوية تقريبا لهذه المعركة، وأرسلت عشرات القطع البحرية بما فيها غواصات وحاملة الطائرات الوحيدة لديها، في حين حشدت إيران التي أرادتها معركة فاصلة وأطلقت عليها اسم “قيامة حلب”، كل مرتزقتها من ميليشيات عراقية وأفغانية ولبنانية وغيرهم من شذاذ الآفاق من الإرهابيين القتلة الذين يرفض الإعلام العالمي والعربي توصيفهم بالإرهاب فقط لأنهم ليسوا من المقاتلين السنة.

بل إن أخبارا تسربت عن مشاركة طيارين مصريين إلى جانب نظام الأسد في معركة حلب، وأن ميليشيات جديدة مثل ميليشيات فيلق القدس الفلسطيني وميلشيات وئام وهاب الدرزي، وأخرى من القومجيين العرب وحتى من الأفارقة يشاركون في هذه المذبحة الكبرى، في مواجهة أبناء مدينة حلب الأقحاح، الذين اتهمتهم روسيا سابقا بالتحالف مع 200 مقاتل من جبهة فتح الشام، لكنها صارت اليوم تعتبرهم جميعا إرهابيين لأنهم رفضوا الخضوع لسلطة الأسد وللاحتلالين الإيراني والروسي.

إنه السقوط الأخلاقي والديني الكامل الذين يظهره هؤلاء بلا حياء، وهم يظهرون الشماتة في أهل حلب المحاصرين لأنهم كما يزعمون من أحفاد بني أمية، فكان أن رأينا القتل بأشكاله الوحشية جميعا، بالصواريخ الارتجاجية والفراغية والمظلية، كما رأينا القتل جوعا وبفعل البرد وانعدام الدواء بعد ضرب جميع المشافي وتدمير كل مراكز الدفاع المدني.. ما يجعل من مجزرة حلب أعظم جريمة إنسانية في العصر الحديث لا تظهر معها مجازر العدوان الصهيوني في غزة مثلا إلا كلُعب أطفال.

ولنكن صرحاء، لو أن إسرائيل فعلت رُبع ما فعلته قوى الشر هذه في سوريا عموما وحلب على وجه الخصوص، لرأينا جموع العرب كما رأيناها في مسرحية 2006 مع دجَّال المقاومة، وهي تخرج لتهتف بسقوط إسرائيل المعتدية، لكن الأمر اليوم يتعلق بحاضرة حقيقية من حواضر الإسلام، العدو الظاهر فيها هي روسيا وإيران بينما إسرائيل التي تضرب مطارات دمشق ولا تلقى حتى التهديد بحق الرد كما تعوّدنا، والتي تنسق مع روسيا الضربات الجوية، وتدخل في تحالف عملي على الأرض مع القوى الشيعية، هي العدو الخفي الحقيقي الذي يمنع أمريكا من تزويد المعارضة بالسلاح، وتمنعها من تقديم مضادات الطيران، لتبقى تتفرج على الإبادة الجماعية من بعيد، من دون أن ينتبه البلهاء إلى أنها المستفيد الأكبر مما يجري.

لكن هل المعركة فعلا “خلصت” كما يتوهّم الواهمون حتى ولو سقطت حلب بالكامل؟ هل ستحطُّ الحرب فعلا أوزارها كما يعتقد البعض في العام 2017؟والإجابة أن ذلك بالتأكيد هو محض خيال، فقد سمعنا هذا الموال كثيرا من قبل عندما سقطت عاصمة الثورة السورية حمص بيد المرتزقة، وخرج مقاتلو المعارضة من أحيائها القديمة إلى الريف الشرقي، كما سمعنا نفس الموال مع سقوط مدينة القصير الإستراتيجية، وعندما فشل الهجوم الكبير على دمشق، وعندما خسرت الثورة معظم جبال القلمون المحاذي للبنان، وعندما خرج ثوار داريا الأبطال من مدينتهم بعد أن أحالتها الطائرات الروسية إلى ركام، وعندما استعادت الميليشيات معظم مدن الساحل إلى غاية كنسبا، وعندما سكتت جبهة درعا بعد أن قيل أن غرفة عمليات “الموك” باعت القضية.

سمعنا كثيرا حكاية حسم المعركة في سوريا، وخرج أنصار النظام في شوارع طرطوس واللاذقية كما في الضاحية البيروتية الجنوبية وغيرها من مواقع اللطم الطائفي، يوزعون الحلوى في الطرقات على أرواح السوريين وابتهاجا بتحرير المدن السورية من أهلها ومن ناسها وكذا من شجرها وحجرها، ليستوطن فيها الأفغان وقوى الباسيج، وتصبح أرض الشام التي بارك الله فيها وحولها مرتعا لكل شذاذ الآفاق من رافعي رايات الحسين والحسين منهم براء.

ولم تغن كل تلك الأضاليل في بقاء واستمرارية الثورة السورية رغم التآمر الدولي الصريح والعلني، ورغم تحوُّل مجلس الأمن ومنظمات الأمم المتحدة الإنسانية وغيرها إلى مؤسسات سخيفة وعاجزة على إدخال حتى شحنة من الحليب والخبز للأطفال المحاصرين.. فكيف بهذه المنظمات التي سقطت من عليائها أن تمنع استخدام نظام الأسد السلاح الكيماوي وغازات الكلور محشوَّة داخل البراميل المتفجِّرة وصواريخ الأرض أرض؟.

لقد بقيت الثورة السورية التي ولدت “يتيمة”، وظلت تعاني اليتم وقد رفع الشعب من أيام العز “الأولى” شعاره الكبير “مالنا غيرك يا الله”، بقيت صامدة في عامها الأول من دون أن يدخل الثوار مدينة حلب أصلا، بل إن حلب كانت من المدن السورية المتأخرة في الالتحاق بركب الثورة مقارنة بدرعا مثلا أو حمص أو ريف دمشق، ما يعني أن سقوط حلب على أهميتها الإستراتيجية لا تعني إطلاقا نهاية الثورة السورية، بقدر ما تعني دخول الصراع مرحلة جديدة، بأدوات وأساليب مواجهة قد تختلف تماما عن الأساليب والأدوات السابقة.

وحتى إذا ما خرج “جيش حلب” من الفصائل الثورية من المدينة باتفاق مع الروس برعاية تركية أو أمريكية، فإن هذا الجيش الذي يُعدُّ بالآلاف من المقاتلين الأشاوس سوف لن يعود إلى بيته، وإنما سيبدأ جولة أخرى من الحرب إلى جانب جيش الفتح من قوات جيش إدلب، وجيش الإسلام في الغوطة الدمشقية، والجبهة الجنوبية وجبهة الساحل وغيرها من الجبهات، مرحلة قد تكون فيها حرب العصابات هو التكتيك الأفضل على غرار ما فعلته الثورة الجزائرية مع المحتل الفرنسي، حيث أن سيطرة النظام مدعوما بالآلة الحربية الرهيبة للروس على الجو، يجعل من الإستراتيجية القديمة في احتلال المدن ومحاولة الدفاع عنها إستراتيجية خاسرة سلفا، لأن النظام وحلفاءه لا يتورَّعون في تدمير تلك المدن عن بكرة أبيها، وهي مدنٌ كلها سنية بالمناسبة، بغرض إما إخضاعها أو إعادتها إلى العصر الحجري، ما يعني أن المرحلة المقبلة تفرض على مجمل الفصائل المسلحة من الجيش الحر، زيادة على نبذ الفرقة والفصائلية التي كانت سببا رئيسيا في تأجيل النصر، الاعتماد على أسلوب الكر والفر، وهي الطريقة التي لا يمكن لأعتى الجيوش في العالم الصمود أمامها.

وليست المراهنة هنا أبدا، على تغيير الإدارة الأمريكية ومجيء ترامب، بهدف انتظار تزويد المعارضة بالمضادات الجوية، لأن الطائرات الروسية تقصف حاليا من ارتفاعات شاهقة تفوق المدى الذي تصله الصواريخ المحمولة على الكتف، ولأن الدرس المستقى طوال السنوات الماضية كان من إدارة أوباما التي خذلت الشعب السوري وباعته في النهاية لقاء الاتفاق النووي الإيراني، فكيف الوثوق بإدارة ترامب التي وعدت قبل انتخابه بالتحالف مع الروس لمواجهة ما يسمونه الإرهاب الإسلامي؟.

المرحلة المقبلة إذن، سينتهي فيها موال السيطرة على المدن وانتظار الدعم الأمريكي أو الخليجي، وسيكون للشعب السوري أن يعول فعليا على الله وعلى قوّته الذاتية، وهو ما يعني عمليا دخول ما لا يقل عن مائة ألف مقاتل من المعارضة المعتدلة، في مرحلة حرب التحرير الوطنية، من قوى الاحتلال الداخلي والخارجي، من خلال حرب العصابات، وهي حرب ستكون طويلة الأمد، الانتصار فيها ليس لمن يمتلك الطائرة والدبابة، وإنما لأصحاب الأرض والإيمان بالقضية، بمعنى أنها ستكون معركة النفس الطويل، التي سينتصر فيها بالنهاية، طال الوقت أم قصر، أهل الأرض ويندحر الغزاة وعملائهم.

ما بعد حلب إذن ليس كما قبلها، لكن القادم ليس بالتأكيد على هوى المطبلين الذين نراهم الآن يتكلمون عن حسم وهمي، وعن معركة منتهية فقط في أحلامهم، بينما ما تزال أرض الشام التي باركها الله، تخفي أسرارها وتتوعّد بأن تكون مقبرة كل الغزاة والخونة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!