سهام الضّلال في حق صاحب الظِّلال
حينما يُتهم مفسر القرآن الشهيد سيد قطب بالشذوذ الجنسي، خلال مرحلة شبابه والفترة التي قضاها بأمريكا قبل عودته إلى مصر وإيمانه بفكر ودعوة الإخوان المسلمين، وذلك من طرف مجموعةٍ من المنحرفين فكريا والمتعصبين سياسيا ومن المتملقين للسلطة في هذا البلد أو ذاك، وبالخصوص في مصر التي خرج من أزهرها الشريف الكثير ممن ضيّعوا شرفهم الديني والعلمي والإنساني معا من أمثال مفتي مصر السابق علي جمعة الذي ذهب إلى أبعد الحدود في تكفيره بل الانتقاص من قيمة وكرامة سيد قطب إلى درجة القول بأن قطب تنكر لأفضال أستاذه عباس محمود العقاد وذلك حينما تحرش بالمرأة التي تعلق بها قلب العقاد وبذلك وكأنه يقول بأن قطب كان السبب في الفراق بينهما إلى درجة أنه تسبب بصدمة نفسية للعقاد الذي قرر بعدها عدم الزواج والارتباط بامرأة أخرى وآثار العزوبية التي جعلته يقضي آخر أيامه معزولا ووحيدا في بيته دون أحد يخدمه ويعتني بشؤونه، أنيسه الوحيد كان الكتاب وفريضة التفكير إلى أن لقي ربه.
وإذا كنا نستنكر مثل هكذا أحكام في حق أشخاص يُشهد لهم بالعلم وبالشجاعة في مواجهة الظلم والقهر السياسي في زمن نظام جمال عبد الناصر الذي علق المشانق لكل من يعارض سياسته، وهذه قضية أخرى لم نجد لمالك بن نبي أي مقاومة لها في كتاباته رغم إقامته بالقاهرة التي سمحت له بالتعرف والاطلاع على التجاوزات التي وقعت وتعايش معها عن قرب، فإننا كذلك لا نقرّ ولا نوافق على جناية نور الدين بوكروح في حق سيد قطب وذلك حينما كتب في مقاله بعنوان “الاسلاموية وفكر بن نبي” المنشور بـ”الشروق اليومي” بتاريخ 05 ديسمبر 2017، حيث يقول “عاصر بن نبي، منظر الأصولية، سيد قطب، بل وتواجهَ الاثنان حيث رد الثاني في كتابه “معالم في الطريق” على انتقادات الأول في كتاب “فكرة الإفريقية الآسيوية”، للأسف الأغلبية اتبعت المصري الظلامي وليس الجزائري التنويري الذي لم يحظ باهتمام حتى من طرف جامعيي ومثقفي بلده “.
ما يجمع هؤلاء العملاقين اللذين تطاول عليهما الأقزام، أكبر مما يفرقهما، يشتركان في كثير، لأنهما كانا ينظران إلى العالم الإسلامي ككتلة واحدة بعيداً عن الاختلافات الفقهية التي يمكن تجاوزها
ولكن، ومع احترامنا للأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، لم يفسر لنا بوكروح ويقدّم الدوافع التي جعلت من الأغلبية تتبع سيد قطب، وما هي الأسباب التي جعلت بن نبي غريبا بين أهله وجيرانه؟ ولماذا، وهو المثقف الكبير في زمانه، رُفض طلبُه للانضمام إلى جبهة التحرير الوطني؟ ولماذا لم يبادر بوكروح نفسه الذي يقدم نفسه على أنه تلميذ بن نبي، إلى العمل على إنشاء مؤسسة أو مركز دراسات يعتني ويهتم بفكر بن نبي بعدما فشل في عالم السياسة التي كان يحصد منها نتائج هزيلة خلال ترؤسه لحزب التجديد الجزائري؟ أو أضعف الإيمان والوفاء يحيي سنة “معلمه” ويفتح بيته للمثقفين لتدارس أمهات القضايا والتحديات التي تشغل الأمة، وهو بالتأكيد على ذلك قديرٌ بخلاف المرحوم مالك الذي كان حظه من الدنيا قليلاً، فوضعه المادي المريح بحكم منصب الاستوزار الذي اختاره صاحب “بين الكوليرا والطاعون”، يسمح له القيام بذلك بل وأكثر، ولكن للأسف ليس الشعراء هم وحدهم من “يقولون ما لا يفعلون” بل بعض أشباه الساسة والمثقفين هم كذلك، بل تائهون كما تساءل بوكروح نفسه بالقول “لماذا المثقف تائه؟“.
تمنيت من السيد بوكروح المثقف أن يتجرد من تعصّبه لابن نبي وعداوته للإسلام السياسي الذي نتفق معه على أنه لازال متخلفا وبعيدا عن القدرة على القيادة وعلى بناء الحضارة، ولكن لم يكن مسموحا له بالتجني على أصحاب هذا المشروع من أمثال الشهيد سيد قطب إلى درجة نعته بـ”الظلامي”، لو كان خطاب بوكروح متوازنا يرى الأمور ويحللها بعين المثقف النزيه لما وقع في هذا المنزلق، ومع ذلك نقول ليته ومن هم على طريقته يتعلمون من الشيخ الدكتور راشد الغنوشي الذي نجح في التواصل حتى مع العلمانيين، ففي مقاله بعنوان: “بين سيد قطب ومالك بن نبي”، لا يجنح الغنوشي إلى الإقصاء بل يجد بأن كليهما عملاق يكمِّل أحدهما الآخر، وفي هذا المعنى يقول: “بعد تفكّر طويل وحيرة وتجاذب في نفسي بين الإمامين، تجلت في نفسي كالصبح مكانة الرجلين العظيمين وموقع كل منهما.. أدركت أنني إذا ابتغيت تفسيرا لآيٍ من كتاب الله وبخاصة التفسير البياني والمنظور الشامل للسورة في ترابط وتماسك آيها ومحايثتها المستمرة للواقع باعتبارها قوة تغيير له وليس مجرد تشخيص، فليس أولى من “السيد” صاحب “الظلال” أظفر عنده بمبتغاي ولكن دون اقتصار عليه أو استغناء عنه، أما إذا رمتُ بحثا وتفكيكا لظواهر التخلف والتحضر والوقوف على محركاتها في تاريخنا وواقعنا، فليس في الفكر الإسلامي المعاصر ما يسعف وينير الطريق إلى الواقع وإلى كتاب الله خير من مالك بن نبي صاحب سلسلة “الحضارة”، فإذا كان الحديث في الحضارة فلا يُفتى ومالك في المدينة”، إذن رسالة سيد قطب وبن نبي كما يجب أن نستوعبها ونفهمها، كلها في خدمة الإسلام والمسلمين سواء في جانبه العقائدي الإيماني الخُلقي وفي مقاومة الاستبداد والظلم والمنكر، أو من وجهه الإنساني الحضاري في مقاومة الاستعمار والتخلف والفقر والجهل والمرض.
مع احترامنا للأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، لم يفسر لنا بوكروح ويقدّم الدوافع التي جعلت من الأغلبية تتبع سيد قطب، وما هي الأسباب التي جعلت بن نبي غريبا بين أهله وجيرانه؟ ولماذا، وهو المثقف الكبير في زمانه، رُفض طلبُه للانضمام إلى جبهة التحرير الوطني؟
واللافت أن ما يجمع هؤلاء العملاقين اللذين تطاول عليهما الأقزام، أكبر مما يفرقهما، يشتركان في كثير، لأنهما كانا ينظران إلى العالم الإسلامي ككتلة واحدة بعيداً عن الاختلافات الفقهية التي يمكن تجاوزها، ولكن للأسف خلف من بعدهما خلفٌ أخفقوا أو تعثروا في هذه المهمة التي تستدعي رجلا يبعثه الله ليجدد لهذه الأمة أمر دينها ودنياها معا، لأن العارفين بالله هذه الأيام لا يستطيعون القيام بهذا الواجب المقدس والمعقد وإنما المطلوب اليوم هم “العارفون بالله والناس أيضا”، وهذه معجزة طال انتظارنا لها، وصدق الله العظيم حينما يقول: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم“.