-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

شتّان بين العالِمتيْن والعالِميْن

شتّان بين العالِمتيْن والعالِميْن
ح. م

عندما صادفتنا مجددا قائمة أعضاء أكاديمية العلوم الجزائرية التي أنشئت السنة الماضية بطريقة “غير أرثدوكسية” شدّ انتباهنا اسم من هؤلاء الأعضاء، وهو اسم الأستاذ عز الدين بوسكسو، فقد ذكّرنا بالراحل أحمد زويل وبعالمتين إحداهما عربية والأخرى إيرانية، ولكل من هؤلاء طريق سلكه يختلف عن الآخرين، ورغم ذلك يمكن أن نجد لهم نقاطا مشتركة وأخرى متباعدة، دعنا نلقي نظرة خاطفة على مسيرة كل منهم:

1. سميرة موسى (1917-1952):  مصرية تأثرت بثورة 1919 التي قادها سعد زغلول زعيم الحركة الوطنية المصرية آنذاك، وكانت زاولت تعليمها الثانوي بمدرسة “الأشراف” في القاهرة، ورغم صغر سنها لاحظت سميرة أن الكتاب المدرسي في الرياضيات الموجه للسنة الأولى ثانوي لم يكن واضح الأسلوب، فراحت وهي تلميذة تؤلف كتابا يشرح المنهاج عنونته “الجبر الحديث” ونشرته على نفقة أبيها، وأهدته لأستاذها، وجاء في الإهداء العبارات اللطيفة التالية: “إلى أستاذي الفاضل محمد حلمي أفندي: جاز لي أن أتقدّم بكتابي “الجبر الحديث” إليكم بعد انتهائي من تأليفه، وهو الثمرة التي نتجت من غرس أياديكم البيضاء، فهاك الكتاب، راجية أن يحوز عطفك السامي ورضاك”! 

لمعت سميرة في دراستها وسمح لها ذلك بالتسجيل في كلية العلوم بجامعة القاهرة، وفي سنة 1939 تحصلت منها على شهادة البكالوريوس برتبة ممتازة، ثم تولت التدريس بصعوبة في الكلية (لأن النساء لم يكن آنذاك يجوز لهن التدريس هناك) بعد أن بت في الأمر مجلس الوزراء! وقصة سميرة الطويلة والشاقة ذكَّرت البعض بالعالمة الفرنسية ماري كوري Curie (1867-1934)، وبعد ذلك نالت منحة إلى بريطانيا تحصلت بفضلها على الدكتوراه في موضوع الأشعة السينية، قال المشرف البريطاني على أطروحتها إنها (أي سميرة) عندما تعود إلى مصر فسوف تفيد جدا في “إعطاء التعليمات الخاصة بالعلاج بالإشعاع ومراعاة تطبيق الفيزياء في الطب الإشعاعي”.

ثم انتقلت عام 1952 إلى الولايات المتحدة لإجراء عدة أبحاث في الفيزياء النووية، ومنها ما له صلة بمكافحة مرض السرطان عبر الأشعة. وفي رسالة إلى أبيها آنذاك كتبت سميرة هذه العبارات قبل رحيلها إثر حادث مميت لا زال غامضا إلى اليوم: “لقد طلبوا مني التجنس بالجنسية الأمريكية، لكني رفضت ذلك بشدة فأنا مصرية صميمة، وسوف أعود لبلدي قريبا لأقدم كل ما تعلمته لبلدي”، وفي رسالة أخرى قالت: “وعندما أعود إلى مصر سأقدم لبلادي خدمات جليلة في هذا الميدان، وسأستطيع أن أخدم قضية السلام”.

2. مريم ميرزخاني (1977-.) : تشغل منصب “أستاذة دكتورة” في الرياضيات في جامعة ستانفورد الشهيرة في الولايات المتحدة منذ بلوغها 31 سنة، وهي حاصلة على الدكتوراه من جامعة هارفارد، كانت أول امرأة نالت جائزة “نوبل” في الرياضيات (المسماة “ميدالية فيلدز”)… كان ذلك قبل عامين، لكن دراستها حتى الماستر كانت في طهران، حيث زاولت دراستها الثانوية في المؤسسة الحكومية الخاصة بالنجباء، ومثلت بلادها كتلميذة في المنافسات الأولمبية العالمية في الرياضيات خلال 1994-1995 ففازت بالميداليات الذهبية، عندما استجوبتها الصحف ووسائل الإعلام الغربية بعد نيلها هذا الفوز الكبير (ميدالية فيلدز) كانت مريم تجيب عن الأسئلة بشكل يُشعِر القارئ باعتزازها بأصولها، وبمسقط رأسها وبالمكان الذي ترعرعت فيه ونالت فيه شهاداتها الأولى… وكانت تذكر أفضال مدرسيها هناك، وتشيد بهم مشيرة إلى بعضهم بأسمائهم، ونجد في محرك “غوغل” أن جنسيتها “إيرانية”، بينما نجد في أماكن أخرى أنها “إيرانية أمريكية”.

3. أحمد زويل (1946-2016): هو مصري الأصل، رحل إلى جوار ربه في مطلع هذا الشهر، وكان قد نال جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999، ودرس مثل مريم ميرزخاني في بلده (جامعة الإسكندرية) حتى مستوى الماستر، ثم واصل دراسته في الولايات المتحدة، قرأنا الكثير مما كُتِب عن الرجل بعد رحيله… ولا نريد في هذا المقام الإساءة إلى مسيرة رجل لم تمض على وفاته 30 يوما، لكن من أراد أن يطلع فسيجد له مواقف، إزاء ما جرى ويجري في الشرق الأوسط، ليست كلها مشرفة له أو لبلده.

4. عز الدين بوسكسو (الأرجح، من مواليد 1965): أستاذ وباحث في الكيمياء بجامعة تولوز (فرنسا) انتخب عضوا في أكاديمية العلوم الفرنسية عام 2014، كما نال استحقاقات علمية أخرى هامة، عندما اطلعنا على سيرته الذاتية كما وضعها بنفسه سنة 2013 (قبيل عضويته الأكاديمية الفرنسية) وجدنا في سطرها الأول العبارة التالية: “49 سنة، متزوج، طفلان، فرنسي” وليس هناك أكثر من ذلك ولا أقل! وبعدها يأتي سرد لمشاوره الدراسي يبدأ كتالي: “1988: دبلوم الدراسات العليا في علوم المادة بجامعة نونت Nantes”، ولا ذكر لماضيه الدراسي قبل ذلك التاريخ! 

أما سيرته التي تم تحديثها عام 2015 فنقرأ في سطرها الأول: “50 سنة، متزوج، طفلان” (لاحظ أن صفة “فرنسي” قد حذفت لأمر في نفس يعقوب)”! ثم تليه قائمة الاستحقاقات، مطلعها: “انتخب عضوا مؤسسا لأكاديمية العلوم الجزائرية في 2015″، وظل مشاوره الدراسي ينطلق من دبلوم الدراسات العليا الذي ناله في جامعة فرنسية، ولم نجد في الأنترنت أية وثيقة تشير إلى مولد ونشأة ودراسة الأستاذ عز الدين قبل التحاقه بجامعة نونت، لكن بعد السؤال، تبيّن لنا من خلال مقال صحفي صدر في جريدة “الوطن” (حوالي عام 2009) أنه درس بجامعة باب الزوار قبل أن يدرس بفرنسا! ولذا فالغالب أنه درس المراحل التعليمية الأولى في الجزائر. وعلى كل حال فأعضاء أكاديمية العلوم الجزائرية يحملون كلهم الجنسية الجزائرية وما كان له أن يكون من بين هؤلاء الأعضاء لو لم يكشف جنسيته الجزائرية للجنة، وبالتالي من المؤكد أن عز الدين مزدوج الجنسية، لكن الرجل حريص ألا يكشف عن هويته الجزائرية عندما كان سنه 49 سنة… وحتى بعد ذلك السن فقد فضّل عدم الإشارة إلى موضوع الجنسية أصلا. 

نترك القارئ يتأمل في هؤلاء النساء والرجال… وفي تفاصيل سيرهم، سيما في باب نظرتهم إلى مواطنهم الأصلية وارتباطهم بها، والواضح على الأقل أن سميرة موسى، رحمها الله، كانت تحمل همّ بلدها وكذا مشاريع استراتيجية لخدمته لولا موتها المفاجئ في أمريكا الذي يرجحه البعض عملا إرهابيا مبيتا، أما مريم ميرزخاني فلا زالت دون الأربعين، واعتزازها بوطنها سيدعوها من دون شك إلى التفاتة علمية طيبة نحوه، وفي المقابل نجد أحمد زويل، رحمه الله، قد قضى نحبه، ومضت 17 سنة على نيله لجائزة نوبل، لكن ما قدمه لمصر ولبني جلدته لا يكاد يذكر مقارنة بما كان لديه من إمكانيات، وفيما يخص عز الدين بوسكسو فالتكتُّم الصارخ على أصله الجزائري لا يبشر بالخير… والله أعلم بالسرائر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • تمار

    يبدوا أن ظاهرة التنصل من الأصول موجودة بكثرة عند الجزائريين الذين يبحثون على الرغيف المسموم، والذي لايجعل منهم إلا خدام الاستدمار الفرنسي بدون مقالب وفي بعض الأحيان يدفعون مقابل أن تتستر عليهم فرنسا وليته نعمتهم.
    استاذنا لا تستغرب من هؤلاء الذين يطلق عليهم في المثل الجزائري (عيشة خير من عيشوش).
    إن التاريخ لا يرحم وسيأتي اليوم الذي يندمون على هذه التصرفات وسيرفضه التاريخ ولا يهتم بهم المجتمع لأنهم يتصورون أن ما قاموا ويقومون به سيجعلهم علماء فالمستدمر يمتصهم، وعندما ينتهي عطاءهم سيرميهم...

  • أبو بكر خالد سعد الله

    إلى "محمد- تلمسان"
    شكرا لكم
    أنا لا أخوض في أسباب رحيل هذا أو ذاك عن وطنه الأم، فلكل واحد خصوصياته يجب أن نحترمها. ما أجده يخرج عن المألوف أن "يطمس" الإنسان اسمه ليس خوفا من مهالك كما يحدث في الحروب والكوارث العرقية بل لأمر آخر دنيوي قي يكون بكل بساطة ماديا محضا.

    إلى "الأستاذ الجامعي..."
    لا أريد الخوض صراحة في المرحوم أحمد زويل للسبب الذي ذكرته ... حتى المدينة التي تحمل اسمه فيها لدى البعض ما يقال. والله أعلم.

  • azul

    D'apres son nom de famille c,est amazigh, pourquoi il n,a pas donne sa vrai nationalite, on sait tous qui algerien ne passe pas car d'apres la logique des francais les algeriens sont des arabes . .. Imagine -vous . s'il

    a dit quil a ete un amazigh algerien, les Baathistes et ''Echouroukonline'' vont l'accuser de trahison...

  • استاذ جامعي-زميل يعني

    شكرا على المقال. مع ذلك قد اشاطرك الرأي في "بوسكسو"، فعند اطِّلاعي على سيرته الذاتية لم اجد اطلاقا ما يدل على اصوله، حتى انك قد تظن انه تونسي او مغربي لاختلاط الجالية هناك, أو قد يخالجك شعور انه ولد عام 1988 و وُجِد عند باب جامعة نانت يحمل معه ليسانس في الكيمياء فتبنته هذه الجامعة "الأم" و وهبته هذه السيرة "المشرِّفة". لكن احمد زويل رحمه الله، اعتقد أن الرجل قد سعى كثيرا لدفع عجلة العلم في مصر، و ما "مدينة زويل للعلوم و التكنولوجيا" الا مثال واحد على ذلك. ولا أتكلم هنا عن السياسة فذلك شأن آخر.

  • محمد

    عبقرية الانسان قوبلت في البلاد الغربية بحفاوة الى درجة .. كن ما شئت و تدين بما شئت و لكن علمنا مما اوتيت علما .. العالم يصل ربما الى العالمية ثقافيا بحيث لا يرى حدود .. فهو ينتمي الى الجنس البشري و يفكر و يبدع فينجح و يتحصل على تكريم لمجهود طوال سينين من العمل و قد ادى واجبه في حياته و هو اولى بان يحكم علينا ايجابا او سلبا .. اما تسييس كل ما هو جميل من انجاز او نجاح فهو عمل اعلامي اشهاري .. فالكثير من علمائنا من ترك ارضه التي يحب بسبب المعوقات الفكرية و انت اعلم بها يا استاد

  • عبدلي ابراهيم

    تحياتي أستاذنا الفاضل ... إن شعور الإحباط الذي تعاني منه تجاه ابتعادنا عن هويتنا شعور مشترك بين عديد من الجزائريين والسبب نفسي أكثر منه شيء آخر ... ابناء الجزائر أصبحوا يهربون رجالا وركبانا وعلى قوارب الموت ليس كرها لبلدهم ولكن لشعورهم بالاغتراب داخل وطنهم ... لم يعد هناك ما يشير إلى تفردهم وتميزهم عن غيرهم ... اللهم سوى المؤسسة العسكرية التي نفخر بكونها المدافع الأول عن العربية كلغة وعن الانتماء الوطني الذي لم يعد له مكان عند من وجدوا في الجامعات الغربية ما لم توفره لهم الجامعة الجزائرية.

  • مواطن

    وددت لو أن كل مسلم وعربي ذكر أصله وفصله لكننا نعيش منذ قرون حرب الحضارات والمسلمون في وضع الضعيف الذي تتقاذفه الأمواج في بحر لجي.لقد تمكن اليهود وهم الذين عانوا من الملاحقة في أية بقعة من الأرض فبصمتهم واختفاءهم عن التظاهر تحكموا في البنوك ومختلف العلوم وفرضوا إرادتهم على أعداءهم في كل مكان بينما نظام سياستنا أوصلنا إلى طلب تدخل النصارى واليهود في شؤوننا لتفكيك دولنا وتشتيت شعوبنا الغارقة في الجهل.اتركوا هؤلاء المتفوقين فينا لكسب العلم والتكنولوجيا ليتقنوا ما يفوق إرادتنا التي تتقبل الذل والهوان

  • brahim

    merci bcp