-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

طبائع البشر وضوابطها!!

التهامي مجوري
  • 3534
  • 0
طبائع البشر وضوابطها!!

الناس طبائع مختلفة، منها الإيجابي ومنها السلبي، ومنها نص نص، ولكن المؤذي منها، ما كان له تأثير سلبي على الغير، أي عندما يكون الطبع للفرد أو للمجموعة يتأذى منه غيرهم أو يسبب لهم حرجا.

والضابط لهذه الطبائع والمُوَجِّه لها إثنان: المعرفة والأخلاق.

فالمعرفة لكونها الضابط العلمي لما له من سلطان على الناس عموما، ولما تتمتع به المعرفة من صدقية لدى الجميع.

وأما الأخلاق فلكونها قيمة حضارية مقررة في نفسيات البشر، وإن اختلفت مضامينها في ثقافات البشر المختلفة، وهي الأخرى لها سلطانها على الجميع.

وهذان الضابطان –المعرفة والأخلاق-، أحدهما فطري ومحبب إلى النفس وهو المعرفة، لكونه من الفضول البشري، فالإنسان بفطرته يريد أن يعرف كل شيء، وذلك قد لا يصلح وحده ضابطا للطبائع البشرية؛ لأنه المعرفة بطبيعتها ربما تحولت إلى محل اختلاف بين الناس، ومن ثم لا تصلح للتحكم في غيرهما بالمطلق، قد تصلح قيدا لبعض الأمور، ولكنها لا تصلح ضابطا عاما.

واما الثاني وهو الأخلاق، فهي أمر فطري أيضا، ولكنها بطبيعتها مكلفة للإنسان، بحيث تحتاج إلى مجاهدة الفرد نفسه؛ لأن الأخلاق متعلقة بسلوك الناس ومراعاتهم للآخرين، وليس تلبية لرغباتهم الذاتية فحسب، كما هو الحال في المعرفة.

ومن ثم يكون الضابط الأصل هو الأخلاق، وتكون المعرفة مساعدة لها على إدراك الحقائق وتحويلها إلى ضوابط للسلوك البشري عموما، وتلك هي التربية في أصولها وفروعها.

على أن تركيبة الإنسان في الأصل، هي عبارة عن خواطر، ومعرفة، وحركة، وعلاقات، وناظم ذلك كله هو الخلاق. وإذا كانت المعرفة هي البداية، لأنها مفتاح كل شيء، قبل أن يؤسس الإنسان للعلاقات مع الآخرين وللحركة مع الكون والحياة، وقبلها الخواطر التي هي مجرد حديث نفس، متبوعتان بالمعرفة وحركة وعلاقات ثمارا لها. فإن الأخلاق هي الإطار الجامع الذي يقرر مصلحة الجماعة ولو كانت من إنتاج الأفراد بمفردهم؛ لأن الإنتاج الفردي يمثل الجزئي الذي لا ينفع إلا بضمه للكل الذي هو انتاج الجماعة المتنوع.

ولذلك كانت الأخلاق تاج المعرفة بما تتفضل به علة الحركة والعلاقات؛ والخواطر بل والمعرفة أيضا، من أبعاد إنسانية راقية وفضائل لا ترتقي إليها المعرفة المادية بمفردها.

وكلما ارتقى الإنسان معرفيا وأخلاقيا، ارتقت دائرة الطبائع وتهذبت بقدر ذلك، وكلما تدنت المعرفة والأخلاق، تدهورت الطبائع تبعا لذلك، وفي ظلال المعرفة والأخلاق توجد حيوية الإنسان بحركته التي يقوم بها وعلاقاته التي ينشؤها؛ بل وبخواطره التي تسبق المعرفة والحركة والعلاقات.

وطبائع البشر الفطرية والمكتسبة على حد سواء، في قَدْر معين لا يستطيع الإنسان الاستغناء عنه؛ بل هو ضروري للحياة، وهو ما يمكن نعته بالطبائع الفطرية، وبعضه يختلف من شخص لآخر ومن مجموعة لأخرى، لما بين الناس من فوارق في الطبائع والخلقة والعادات، وهذا من الاختلاف الذي يمكن تجاوزه وتقبله.

ولكن المستهجن من تلك الطبائع، هو عندما تتحول إلى أضرار موزعة على الناس، بحيث يتحول حاملها إلى حالة تشبه المرض معدي، كلما مر صاحبه على قوم نقل إليهم ما يضرهم ولا ينفعهم.

فالحب والبغض صفتان في الإنسان أو طبيعتان فيه، ومزيتان يحتاج إليهما في حركاته وعلاقاته، ولكن عندما يكون هذا الحب أو البغض له آثار سلبية في واقع الناس، أو آثارا سلبية متوقعة في المجتمع، فإن تينك الصفتين تصبحان عبأَ عليه، بسبب ما لهما من تأثير نفسي سلبي على الذات وعلى الغير معا.

لقائل أن يقول بالنسبة للبغض فهمنا أن له سلبيات، لكن ما بال الحب، كيف يكون له سلبيات؟

نعم للحب سلبياته أيضا مثلما هي سلبيات البغض، إذا بلغ حدا من الغلو والمبالغات غير السوبية، مثلما قال الشاعر:

عين الرضى عن كل عيب كليلة *** وعين السخط تبدي المساويا

حيث يوجد من الناس من يعميه حب شخص أو شيء، عن كل عيوبه، فيضل الطريق وربما يضلل غيره أيضا، بل ربما ارتكب حماقات لا يرتكبها المبغض.

ولتجاوز ما هو مستهجن من ذلك، وحسن تقبل المختلف فيه بين الناس من الطبائع، وترسيخ القدر الضروري منه، لا بد من ضابط علمي اخلاقي كما أسلفنا، بحيث يحب الإنسان ويبغض على علم وبأخلاق، وليس بإطلاق الحبل على الغارب.

وعلى الرغم من أن هذه المعاني مقررة في جميع الثقافات كأخلاق ودين وقوانين ومنظومات ثقافية، فإن ما يغلب على طبائع الناس هو الأنانيات والذاتيات، وتقديمها وتفضيلها على مصالح الجماعات وحقوقها على الأفراد…، فالإنسان بطبعه متطلع إلى ما عند غيره…، عندما يكون هذا الغير متفوق في أمر ما، فإذا لم يُسَيَّج هذا التطلع بسياج من العلم والأخلاق، قد يتحول إلى حسد، ومما يغلب على الإنسان أيضا الابتعاد عما يُكَلِّفُه ويُتْعِبه…، فيميل إلاى السهل من الأعمال ويرضى بالقليل من النتائج، وإذا لم يضبط هذا الابتعاد عن مواقع التكليف، والركون إلى الراحة، بضوابط العلم والخلاق، فإنه يتحول إلى قعود وسلبية يضيع معها كرم العيش وفضيلة التوفيق الإلهي، وكذلك الطمع في استغلال الآخرين، وتقلب المزاج لدى الإنسان وتفلته من الالتزامات…، وعدم الاهتمام بما عليه من واجبات إلا بقدر ما يحقق له ذاتيته، وما يضطره إليه ضغط الواقع…، كل ذلك أيضا، إذا لم يحط بالقيم الناظمة للمجتمع وهي من بركات العلم والأخلاق، فإن دائرة الخلاف والنزاع تتسع شيئا فشيئا…، إلى الحد الذي لا يطيق الفرد غيره، قريبا كان أو بعيدا.

كل هذه الطبائع مستشرية في الناس، على تفاوت بينهم في ذلك، لما بينهم من اختلاف في المراحل العمرية وفي المستويات المعرفية والأخلاقية وغيرها…

يقول جماعة علم النفس، إن الخصائص الفردية تجعل من كل فرد حالة تختلف عن غيرها من الحالات، بمعنى أننا عندما نكون في وطن عدد سكانه أربعين مليونا، فنحن أمام أربعين مليون حالة، وعندما نكون في واقع مثل هذا، ألا يحق لنا أن نتساءل كيف يتفاهم الناس؟ وكيف يتوافقون؟ وكيف يحلون مشاكلهم ونزاعاتهم؟ ثم كيف نجعل من هذه الفرديات كلا واحدا متناغما فيما بينهم.

إن الإنسان كما ينقل العقاد عن أحد الكتاب الأمريكيين: قوله إن “الإنسان ثلاثة أشخاص في شخص واحد: الإنسان كما خلقه الله، والإنسان كما يرى نفسه، والإنسان كما يراه الناس” [عباس محمد العقاد، من كتاب: “أنا”].

فالإنسان إذن عالم بكل ما تعني كلمة عالم من معنى، فهو يشبه جميع المخلوقات في جوانب، ويختلف عنها في جوانب أخرى، فيشبه الجمادات في سكونه، ويشبه الحيوانات في غرائزه، ويشبه الحيونات المفترسة منها، في اعتداءاته على غيره، ويشبه النبات في نموه، وفي حاجته للرعاية في مراحل معينة من عمره…، وله أعمار مختلفة، فهو طفل وللطفولة خصائصها، وشاب وللشباب خضائصه، وكهل وللكهولة خصائصها، وشيخ وللشيخوخة خصائصها، ويحمل في نفسه قابلية لا حد لها للخير والشر، فهو معد لأن يكون شبيها بالملائكة في استقامته، كما هو مستعد لأن يكون شيطانا من الشياطين في تمرده وانحرافاته.

تلك هي طبائع الإنسان في تركيبته الخِلْقية والخُلُقية، ولكنه في نفس الوقت هو مكلف ومسؤول عن كل ما يصدر عنه، ويقوم به من سلوكات وأقوال وأفعال، كما أن له موقعا في السُّلَّم الاجتماعي يُنْظر إليه من خلاله ويحاسب على ضوئه، سواء في محاسبته لنفسه أو في محاسبة غيره له.

وبسبب هذه الإختلافات والإضطرابات المتنوعة في طبيعة الإنسان، كبذور مزروعة ثابتة في نفسه قابلة للنّماء والإنماء، كانت رسالات الأنبياء والرسل تباعا، من أجل ضبط هذه التقلبات بما يخدم المجموعة البشرية، وذلك بربط الناس بالله سبحانه وتعالى كغاية عليا يتطلع إليها الإنسان، فكان الدين ضرورة كونية في الحياة، بقطع النظر عن صحته وبطلانه، وكذلك كانت العلوم الإنسانية كلها من أجل إحداث التوازن في حياة الإنسان؛ لأن الإنسان لم يخلق ليعيش وحده؛ بل لا يمكن أن يعيش وحده ولو أراد، لأنه اجتماعي ومدني بالطبق كما ينقل ابن خلدون عن الحكماء…، فعلم الاجتماع وعلوم التربية وعلم النفس والعلوم السياسية، كلها وغيرها جاءت لتنظم حركة الفرد داخل المجموعة البشرية، وتنظيم المجموعات فيما بينها وإنشاء الأفكار والمؤسسات الناظمة لكل ذلك.

وإلى جانب ما فطر عليه الإنسان من ارتباط بالغيب المتمثل في ظاهرة التدين، جعل الله الإطار الأول الذي يمكن أن تذوب فيه نسبة لا بأس بها من أنانيات الأفراد، هو إطار الأسرة، التي يشعر فيها أفرادها بأنهم يمثلون كتلة واحدة، بحيث إذا تكلمنا عن أقوى العلاقات الإنسانية في إطار الجماعة، فإنها أقوى ما تكون في العلاقات الأسرية وعلاقات الرحم، وذلك واضح في نظام القبيلة والجهة وإلى كل ما يُشْعِرُ بالقرابة والحماية، ثم تأتي بعد ذلك دائرة المجتمع التي ينظمها ما تعاقد عليه الناس في الإطار الإجتماعي، ثم تأتي تباعا كل الأوعية والدوائر التي يشعر فيها الفرد والجماعة بالقرب والحماية والنمو… فكل دائرة يشعر فيها الإنسان بالحماية والنمو، هي دائرة من دوائر الانتماء، التي يخضع لها الفرد ويتنازل عن أنانياته في إطارها، عن رضى وبطمأنينة تامة، وذلك ما قرره تحالف المعرفة والأخلاق في تنظيم حياة الناس.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!