-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

طوفانُ الأقصى وخيارُ المقاومة

التهامي مجوري
  • 227
  • 0
طوفانُ الأقصى وخيارُ المقاومة

يتساءل البعض حول سر المقاومة، وما تقوم به من أنشطة تفوق الخيال؛ بل إن البعض ممن ألِفوا الهزيمة وتشرّبوها، يعتقد أن ما قامت به المقاومة في “طوفان الأقصى”، عبارة عن مؤامرة ضد الشعب الفلسطيني، لتيئيسه نهائيا من التفكير في الاستقلال، بسبب ما سيرى من خسائر واستنزاف للشعب وطاقاته!

لكن المتابع لملف القضية، يلاحظ أن ما قامت به المقاومة في “طوفان الأقصى” يسير في الاتجاه ذاته الذي أسست له انتفاضة الأقصى في 1987 بعد إخراج الفلسطينيين من لبنان في 1982 وتخلي العرب عن القضية رغبا ورهبا.

بعد أكثر من عشر سنوات على الانتفاضة الأولى التي اندلعت في ديسمبر 1987، وتعثّر كل ما وعدت به الاتفاقيات والتفاهمات ومبادرات الاستسلام القادمة من هنا وهناك إلى فلسطين، كانت الانتفاضة الشعبية الثانية في سنة 2000 التي شملت القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وبعض مناطق الداخل، إثر اقتحام رئيس حزب الليكود الصهيوني أرييل شارون المسجد الأقصى متجاهلا تحذيرات الفسطينيين، وكانت حصيلة الانتفاضة الثانية 4464 شهيدًا فلسطينيا، ونحو 47 ألفا و440 جريحًا، وأكثر من 9800 أسير، وقتْل ياسر عرفات مسموما في نوفمبر 2004، كما تم اغتيال أحمد ياسين وتحطيم مطار غزّة عن آخره، المطار الذي انشأته السلطة ليكون لها وجها تستقبل به ضيوفها القادمين إليها من العالم، وقتل الطفل محمد الدرة، واعتقال الكثير من الطاقات الحية المسانِدة لتوجه المقاومة من إطارات فتح ومنهم على وجه الخصوص مروان البرغوثي أمين سر فتح.

ورغم أن حركة المقاومة لم تعترف بالمنحى التفاوضي الذي انتهجته السلطة، فإنها لم تبخل على جميع المساعي السياسية بإعطائها الفرصة لتجريب مساعيها… ولكن الفشل التفاوضي الفلسطيني والعربي أيضا كان دائما هو سيد الموقف، وخاصة بعد محاولة السلطة الانقلاب على حماس التي فازت بالانتخابات بالأغلبية في غزة في 2006، فكان الحسم لحماس ووقع ما يُعرف بالانقسام، إذ استولت حماس على غزة في 2007 وانسحب رجالُ السلطة.

واستمرت المقاومة في ظل حكومة حماس في غزة، صحبة غيرها من حركات المقاومة في ممارسة قناعاتها في المقاومة واستمرار الجهاد لتحرير فلسطين.

إن المقاومة التي يراد لها أن تحافظ على “النوم العامّ للأمة”، قد شقت طريقها في الواقع، وهي تطوِّر نفسها من سلاح الحجارة والسكاكين والسلاح الأبيض، إلى السلاح المصنوع محليا، وهي تغزو به بين الحين والآخر، في سنة 2014، وفي سنة 2021، وقد كشفت هذه المرة في يوم 7 أكتوبر 2023 على مستوى جديد وتحوّل جديد في المقاومة، وليس مجرد عمليات محدودة “اضرب واهرب”، وإنما قامت بغزو حقيقي بالآلات والأسلحة الفاعلة والضربات الموجعة.

إن المقاومة كفرت بالمواثيق الدولية التي عجزت عن إلزام الصهاينة بتنفيذ أكثر من سبعين قرارا دوليا خاصا بقضية  فلسطين، وكفرت بجدوى التفاوض في أمر واضح وحق مقرر باسم الله والتاريخ والواقع، وكفرت بما تريد السلطة الوطنية الفلسطينية من مراعاة للواقع الدولي والمحيط الإقليمي، وآمنت بالله وبوعده ونصره وبما تستطيع فعله، وكأني بالمقاومة الفلسطينية في نهجها هذا كانت تستمع إلى الشيخ عبد الحميد ابن باديس رحمه الله وهو يقول في سنة 1936 “فلنعتمد على أنفسنا ونتكل على الله”، وذلك بعد عودته من فرنسا ضمن وفد “المؤتمر الإسلامي”، حيث هُدِّد هناك من قبل أحد المسؤولين الفرنسيين يومها بقوله: نحن نمتلك المدافع! فرد عليه ابن باديس بقوله: ونحن عندنا مدافع الله! وذلك بسبب فقدانها الثقة في كل الجهات، عدا جهات دعم المقاومة، وبمقدار معين؛ لأن ما يطبع الحياة السياسية والعلاقات الدولية هو المصالح، فمن يدعم يدعم لمصلحة ومن يحجم يحجم لمصلحة.

والمقاومة والانتصار للحق، لا يقتضي أن تكون هناك مصلحة آنية؛ بل إن الانتصار للحق مطلبٌ إنساني لا يجوز التخلي عنه مهما كانت الأسباب.

وعالمنا العربي بكل أسف قد تراجع كثيرا في هذا الجانب، وذلك منذ حرب  سنة 1973 وبداية العد التنازلي في سنة 1977 التي تمت فيها زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس، ليشقَّ طريق الاستسلامي الذي تبنّته القيادة الفلسطينية بعد ذلك، ثم تحولت المزايدات أو المناقصات من دولة إلى أخرى إلى أن بلغت هذا المستوى من التردي الذي يُعرف اليوم بـ”التطبيع” الذي لم يرفضه إلا القليل من دول العالم العربي.

أما العالم الغربي فهو من تسبب في زرع هذه النبتة الخبيثة في المنطقة، فلا يرجى منه غير المواقف المخزية غير الإنسانية.

لا شك أن ما يؤرق ويدمي القلب، ويبعث على اليأس وينال من الكثير من طاقات الأمة، هو اختلال ميزان القوة وتآمر ذوي القربى على القضية خوفا وطمعا؛ بل لا يسمح في العادة للناس بتجاوز الواقع والإيمان بجدوى المقاومة، ولكن الإيمان بالقضية والاهتمام بإعداد العدة الكاملة يصنع من اللاشئ أشياء، وكما مرت الإشارة إلى ذلك، فإن المقاومة خلال أكثر من ثلاثة عقود، قد طورت نفسها وصنعت وسائلها بنفسها واقتحمت الساحة بقوة وعزيمة المنتصر الذي لا يلتفت خلفه، فليس عنده ما يخسر بعدما خسر وطنه ونخبه المتخاذلة…

والمقاومة، إضافة إلى إيمانها بقضيتها التي تشترك فيها مع الكثير من القوى الوطنية، حددت أهدافها وغاياتها بنفسها وتحركت لتغيير الواقع وفق ذلك الطموح والمثل العليا التي تعلقت بها، ثم ركزت على صنع وسائلها لتغيير هذا الواقع، فكانت البداية بالحجارة ثم بالسلاح وأخيرا بالخطط العسكرية الإستراتيجية الكبيرة، التي تعجز عنها الدولُ الكبرى والجيوش الجرارة.

لقد عاشت القضية مدة أربعين سنة 1948/1988 مُشعّة على العالم بفضل دعم أحرار العالم لها، والتاريخ خلَّد لنا أسماء لامعة في قاموس المقاومة في ذلك أمثال محمد بوديا وكارلوس وجورج إبراهيم عبد الله… ولكن منذ نهاية السبعينيات خفت ذلك الشعار بسبب التوجه المتخاذل الذي أسس له الرئيس المصري أنور السادات، ثم انطفأت بمبادرات السلام المنبثقة عن أوسلو 1993، وأخيرا أضحت المقاومة اليوم مُجرَّمة في الغرب، ويشمل هذا التجريم حركات المقاومة الفلسطينية كحماس والجهاد، التي ينعتها اليوم بـ”الحركات الإرهابية”.

ولكن على مرّ الزمان أثبت التاريخ أن مسار الحل السياسي مع العدو الصهيوني لا جدوى منه، وأن الطريق الصحيح هو المقاومة لاقتلاع جذور الوجود الصهيوني في الشرق الأوسط، ولا طريق في ذلك غير المقاومة، وها هي المقاومة الصامدة في غزة تثبت هذه الحقيقة بالفعل وبالخبرة الميدانية.

والآن، رغم الحصار المضروب على غزة وعلى المقاومة ومطاردة رجالها في العالم، ها هو “طوفان الأقصى” يعيد القضية إلى مربعها الأول، مربع المقاومة والتحرير وفق قانون الحق والتاريخ والواقع.

والحق يتمثل في حق الشعب الفلسطيني في دولة يعيش في ظلها، لا أن يعيش على خمُسْ أرضه في بقعة وكأنه في سجن كبير يديره الصهاينة بواسطة إدارة تسمى “السلطة الفلسطينية” التي ليس لها من الأمر إلا ما تقرره سلطات الاحتلال، بعد تصفية كل من يقول لا ولو في أمور تافهة.

أما التاريخ، ففلسطين أرض احتلّتها شرذمةٌ من الصهاينة، بدعم غربي غير محدود، ولا وجود للدولة الصهيونية عبر التاريخ إلا ابتداء من الاحتلال 1948، ومن ثم فإن التاريخ سيعيد الأمور إلى نصابها آجلا أم عاجلا… فإن لم يحارب الفلسطينيون اليوم، فسوف يأتي أبناؤهم أو أحفادهم ليحاربوا من أجل استرجاع أرضهم.

على مرّ الزمان أثبت التاريخ أن مسار الحل السياسي مع العدو الصهيوني لا جدوى منه، وأن الطريق الصحيح هو المقاومة لاقتلاع جذور الوجود الصهيوني في الشرق الأوسط، ولا طريق في ذلك غير المقاومة، وها هي المقاومة الصامدة في غزة تثبت هذه الحقيقة بالفعل وبالخبرة الميدانية.

إن التجربة الجزائرية في ذلك تعدُّ من النماذج الرائعة في مقارعة الاستعمار، إذ قُمعت كل حركات المقاومة التي استمرت ثمانية عقود، تخبو ثورةٌ وتثور أخرى، ولما أدركت نخبُ البلاد يومها بأن استمرار المقاومة المسلحة غير ممكن؛ بل هو استنزافٌ للقوى بلا مردود معتبر، تحوّلت المقاومة إلى خوض غمار الفعل السياسي، الذي لم يتنازل عن المفاصلة “البائنة بينونة كبرى” وفي مدة 34 سنة فقط 1920/1954، اندلعت الثورة وهي ثورة 1954، التي حقّقت الاستقلال بعد سبع سنوات من الكفاح المسلح، رغم أن الواقع لم يكن يسمح بالمواجهة، بسبب تفاوت موازين القوة، ومع ذلك كانت قوة الإرادة تعوِّض الكثير من النقائص الأخرى.

والواقع أيضا ليس بعيدا عن المبررات الآخرى، وهو أن وجود دولة الصهاينة في المنطقة غير متجانس معها، بكل المقاييس، ويضاف إليها مقياس خاص بعنصرية القوم، الذين لا يعتبرون منهم إلا من كان يهوديا؛ بل إن من يطلب الجنسية من القادمين من دول أخرى، يُطلب منه إثباتُ يهوديته عن طريق الحمض النووي (آ دي أن)، وهذا الانغلاق لا يساعد اليهود على الاندماج في المجتمع الشرقي، رغم أن اليهود في أصولهم شرقيون.

ولذلك كانت حتمية زوال دولة الكيان الصهيوني من المقررات التاريخية المنتظرة، إذ أصبحت الفكرة حديث كل من يتناول الموضوع وأطراف صراعه؛ بل إن الكثير من اليهود في العالم اليوم يتبادلون هذه المعلومة، ومنهم من سارع بتنفيذ موجبات هذه المعلومة فرحل إلى مسقط رأس آبائه وأجداده.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!