-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

على مشارف الفتنة الثانية

التهامي مجوري
  • 1966
  • 0
على مشارف الفتنة الثانية

إذا كانت الجزائر لم تتعاف بعد من الفتنة الأولى 1992/1999، التي حصدت أكثر من مائتي ألف قتيل، فإن أحداث غرداية التي تشتعل هذه الأيام إلى الحد الذي يطالب فيه البعض بإعلانها منطقة منكوبة، تنذر بانفجار أكبر وأعمق من الفتنة الأولى، لا أحد يستطيع تقدير نهايتها، وإذا استمرت الأمور على هذه الحال، ووقع المحذور –لا قدر الله- فإن الأمر لا يقف عند حصد أرواح مائتي ألف قتيل أو أكثر أو أقل وحسب، وإنما سيرهن الشعب الجزائري وممتلكاته “للرقم المجهول”، المتحكم اليوم في أحداث غرداية، التي غابت فيها كل معاني المنطق والشرعية والفهم والمسؤولية، وعجز العقلاء عن فعل شيء فيها، من أعيان المنطقة ومن خارجها.

لقد كانت الفتنة الأولى معلومة الأسباب المباشرة، ومكشوفة الأطراف على الأقل في اندلاعها، ومحاولات حلها كانت دائما بين طرفين رئيسيين، السلطة الفعلية كما كان يسميها شيخ الحركة الوطنية الأستاذ عبد الحميد مهري رحمه الله، وبين قيادة الفيس في السجن وقواعده من الذين دخلوا السرية مع اندلاع الأحداث..، فكانت المطالب كلها معلومة ومعروفة، ومبررات الأخطاء والجرائم والإصابات والمصائب كلها معلومة أيضا.

السلطة تبحث عن المتحكم في الجماعات المسلحة، لتناقشه وتتحاور معه وربما تفاوضه، وفي نفس الوقت تبحث عن مواقف سياسية تنزع الغطاء عن هذه الجماعات، وهذه الجماعات وغيرها من الكتل المعارضة، بدورها أيضا كانت تضغط على السلطة من أجل رد الاعتبار للفعل السياسي، والعودة إلى المسار الطبيعي السلمي، ومع ذلك لم تتم العودة إلى منطق الفعل السلمي إلا بعدما سقطت الارواح وسالت الدماء والدموع واتلفت الأموال والثروات الطائلة… ليعترف الجميع في النهاية بضرورة العودة إلى الفعل السياسي الطبيعي السلمي…، ولا ندري بالضبط هل أن القوم اهتدوا بالتجربة إلى أن بعضهم أخطأ في إلغاء الانتخابات الشرعية والنزيهة؟ أم أنهم أدركوا أن السلاح لا منطق له إلا حصد الأرواح، ومن ثم لا حل يرجى منه؟ أم أنهم اجمعوا على خوض التجربة مهما كلفت من ثمن، ليختبروا مدى قدراتهم على التحكم في الواقع، أو مدى قدرة كل منهما على إفناء الآخر؟ لا سيما وان الجميع قد شعر وأنه يخوض تجربة في بدايتها، غير قابلة للتكرار فيما بعد، وهو ظرف بلا شك، فرض على الجميع واقعا غير معهود في التحول السياسي، ابتداء من أحداث أكتوبر 1988، ومباشرة الاصلاحات التي افتتحت بالدستور التعددي في فبراير 1989، وانتهاء بالانسداد السياسي واللجوء إلى الحلول الأمنية.

إن التحولات والمحاولات الإصلاحية في العالم، غالبا ما تكون بأثمان باهضة، تدفعها المجتمعات أثمانا لتحقيق مكاسب اجتماعية وسياسية، وأوجاعا كالأوجاع التي تصيب عضلات الرياضي أثناء ممارسته للرياضة بعد انقطاع طويل عن ممارستها، أو أثناء التدريبات المتواصلة، ولكن المجتمعات الناضجة، تقطف ثمار اهتزازاتها الاجتماعية والسياسية، مقابل الأثمان التي دفعتها، لا ان تعود إلى الصفر كما هو واقعنا نحن، من حركة لعروش إلى حراك الحنوب إلى عجز سياسي عام، وآخرها أحداث غرداية.

لقد كان بعض الذي وقع متفهما في إطار التحول، وكان يمكنه تجاوزه بالمنطق والعقل، ولكن لما كان منطق الأحقاد هو الحكم، وفلسفة الانتقام المؤدلج هو المسير لأطماع الناس وطموحاتهم.. كان الذي كان، وراح الذي راح غير مأسوف عليه، وبقي بكل أسف بعض الذي نريد أن نتخلص منه.

إن ما يقع في غرداية هذه الأيام وقبل اليوم، فمجهول المبررات الحقيقية، وما يذكر كمبررات لا يسلم به كأسباب حقيقية لما يحدث..، حيث ان الاختلاف المذهبي الذي يذكر دائما، كمبرر خلافي بين مالكية وإباضيين، كان ولا يزال وسيبقى، والامتيازات التي خص بها الميزابيون دون غيرهم من اهل المنطقة، بسبب خصوصيات مذهبية –بالحق كانت أو بالباطل-، كانت وستبقى، ما دام لها ما يبررها أو يبرر بعضها، والحاجة الاجتماعية لأهل المنطقة والحرمان الذي يعيشونه، كان ولا يزال بنفس المستوى، الذي يعاني منه أكثر الجزائريين.

وحتى إذا انطلقنا من هذه المبررات واعتبرناها خلاصة لمبررات أزمة، فإن المنطق يقتضي التأسيس لمجموعات بحث ودراسة وتشاور وإنشاء كتل من الأعيان والعلماء لبحث المظالم في أطرها، والحكم والمرجع في ذلك المواطنة والمشترك الإنساني، والمواطنة حقوقا وواجبات، التي هي القاسم المشترك بين الجزائريين، مالكية وإباضية وعرب وبربر…  

هذا القدر من المبررات رفع منذ بداية الأحداث كشعار، للحراك الذي تشهده المنطقة، وبحكم ان هذه الأسباب غير  حقيقية، أو على الأقل ليست هي الأصل أو فيها قدر من الحقيقة ولكنه ليس كلها، فقد أخذت الأحداث اكثر من وجهة، كلها ذات طابع عفن، لا يستسيغه عاقل، ليس له علاقة بأصالة المنطقة وأبعادها الحقوقية، المذهبية والاجتماعية السياسية الوطنية، فعندما تتحول صفحات التواصل الاجتماعي والمنشورات التحريضية المتنوعة والفيديوات على اليوتوب، إلى نعوت وتوصيفات ساقطة، أن المالكية –الشعانبة- بدو وهمج لا علاقة لهم بالحضارة، فهم اهل “زطلة”، وكل ما يقومون به هو العمل على استئصال الإباضيين، فهم العادون بدعم من القوى الأمنية ورجال السلطة !! وفي القابل منشورات أخرى تقول إن بني ميزاب خوارج يشكلون خطرا على البلاد، فهم دولة داخل دولة، والسلطة تمكنهم من كل ما يذلون به خصومهم في المنطقة.. فهم يريدون ان يكونوا سادة وغيرهم عبيدا !!

هذه المعاني وما يشبهها قد تكون وصلت إلى آلاف الناس لا سيما الذين يتابعون الأحداث على صفحات التواصل الإجتماعي، فتصطف الجماهير وفق ما تميل به أهواؤها، وتتنادى كما تتنادى القبائل الجاهلية العربية فيما بينها قديما، وهو أمر غير مستغرب من عوام المتساكنين، وهو واقع بين الكثير من المتجاورين في المناطق الداخلية، ويعرفه كل الناس، وإنما الذي يجري الآن في ولاية غرداية، قد اتكأ على هذه المبررات التي لا تخلو منها منطقة بالجزائر، ولكنها تحولت إلى طرح قضايا يمكن ان تصل إلى مستوى الإخلال بالأمن العام والخيانة للوطن، فدعوة كمال الدين فخار للأمم المتحدة للتدخل لحماية الأقلية الميزابية، واتهام جمعية العلماء التي تعمل منذ مدة على رأب الصدع والتقريب بين الفئات المتنازعة، بالتحيز إلى هذه الجهة او تلك، فالميزابيون يتهمونها بالتحيز للمالكية، لكون الأغلبية فيها مالكية، والمالكية يتهمونها بالتحيز للميزابيين لأنها تجاملهم او “أثروا عليها”، وغياب السلطة كطرف فاعل لتطويق الفتنة في مربعها الأول، وتدَخُّل بعض السياسيين بمذهبياتهم الضيقة في الموضوع، كل ذلك أزم الوضع أكثر، وفتح له أبعادا وهمية تصلح منذا لكل من يريج “التخلاط” في الجرائر.

هذه الأمور مجتمعة لا يمكن أن يفهم منها أن ما يقع له مبررات حقيقية تبحث عن حل، وإنما هو واقع يسير في طريق التأزيم وتعفين الوضع وتطبيعه ليتحول إلى عملية إفناء متبادلة..، وتركيع متعمد للجزائر وشعبها، وقد بدت في هذه الأمثلة التي ذكرنا، ولكن المتابع يلاحظ أن الدائرة تتسع شيئا فشيئا.. فانتقال التجمعات الاحتجاجية الميزابية إلى أكثر من منطقة يعني أن “غريزة حب البقاء” هي التي تتحرك وليس العقل الميزابي المنظم، وهنا تكون الغلبة لطروحات فخار وفرحات مهني وغيرهما من الشعوبيين، والمعالجة عندما تسير في هذا الخط، فإن منطق العقل يعطل، فتتحرك وتستشري الطروحات المتطرفة المقابلة، التي تشعر بالمظلومية تجاه قوة الوجود الميزابي في غرداية.

إن الفرصة لا تزال قائمة امام العقلاء في البلاد من أجل تطويق الأزمة، والمطالب سواء من هذا الطرف او ذاك يمكن تفهمها، إذا كانت في إطار المواطنة حقوقا وواجبات، ولكن باستبعاد الأجواء الطائفية المقيتة التي لن تكون في صالح أحد من الناس. وإذا عجزت الجزائر برحالها على إيجاد حلول لقضاياها الوطنية وفق منظومتها الوطنية المثمرة، فإن الواقع الدولي كما نلاحظ سيجر البلاد إلى ما لا نريد ولا نتمنى، والمراهنون على أن الشعب محمي من مثل هذه التوقعات بسبب تجربة الفتنة الأولى، عليكم ان يتذكروا  لأن المولودين مع بداية الفتنة الأولى سنة 1992، يبلغون من العمر 23 سنة، وشاب في هذه السن، أي أنه لا يذكر شيئا عن تلك الفتنة، ومؤهل للإستجابة لكل ما يراه مناسبا لفهمه.. 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • بدون اسم

    تعلموا صناعة الحياة و فن العيش و التعايش مع بعضكم البعض و كونوا عباد الله إخوانا امتثالا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لا تحاسدوا ، ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى هاهنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه ) رواه مسلم .

  • بدون اسم

    نداء للحياة لا للموت!
    فيا إخوتنا في غرداية أجيبوا داعي الحياة و اجتنبوا زارعي اليأس و الموت ...
    "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) (الأنفال)
    فلتجتمع سواعدكم من أجل البناء و التعمير و لتكف عن التخريب و التقتيل