-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عن مقاربة ماكرون حول الماضي الاستعماري

عن مقاربة ماكرون حول الماضي الاستعماري

تنتمي إدارة إيمانويل ماكرون سياسيا إلى الحلقة الثامنة من حلقات الجمهورية الفرنسية الخامسة التي أسسها شارل ديغول سنة 1958 على أنقاض الجمهورية الرابعة. وينتمي ماكرون زمنيا إلى جيل ما بعد الاستعمار ومن ثمّ لا يمكن تحميله وأقرانه وزر ما فعله أسلافهم في الجزائر. هذه قضية لا تقبل الجدل والقفز عليها يعد قفزا على مبادئ المسؤولية الأخلاقية التي يشير إليها قوله تعالى: “ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى”.
تشكل قضايا الذاكرة والماضي الاستعماري في الجزائر هاجسا كبيرا لإيمانويل ماكرون يحول دون المضيِّ قدُما في تطوير العلاقات مع الجزائر. لم يُبدِ ماكرون في عهدته الأولى المنقضية موقفا صريحا من الاستعمار فتارة يقول إن “الاستعمار الفرنسي للجزائر شيء من الماضي وعلينا -فرنسيين وجزائريين من الأجيال المعاصرة- عدم الالتفات إليه من أجل الدفع بالحوار الفرنسي الجزائري إلى المستويات المطلوبة والمرغوبة”، وتارة يقول-تحت ضغط بعض اللوبيات السياسية- إن “الاستعمار الفرنسي جزءٌ من التاريخ الفرنسي وعلينا أن نتقبله كما هو سواء أرضى ذلك الطرف الآخر أو لم يُرضِه ففرنسا -كما قال- سيدة في مواقفها”.
جاء ماكرون إلى الجزائر وفي جدول زيارته ملفاتٌ عالقة يمكن تحريكها والاتفاق بشأنها، وملفاتٌ أخرى معقدة، وفي مقدمتها ملف الذاكرة الذي يلقى معارضة شديدة من تيارات سياسية في الجزائر التي تصرُّ على أن الاستعمار الفرنسي وما خلّفه من آثار سلبية على الإنسان والعمران في الجزائر مشكلة لا تقبل التفاوض بأي شكل من الأشكال وأضعف الإيمان حيالها اعتراف فرنسا بجرائمها، اعتراف يحمِّلها كامل المسؤولية الأخلاقية والتاريخية التي تتجاوز الاعتذار الذي يتحمس له بعض المؤرخين بكونه –حسبهم- الحل الأمثل لهذه المشكلة التي لم توفق الحكومات الفرنسية المتعاقبة في علاجها من جذورها.
لسنا ضد زيارة ماكرون إلى الجزائر، ففي هذه الزيارة -عدا القضايا التاريخية الحساسة- مصالح متبادلة بين الجزائر وفرنسا. ولسنا أيضا ضد التقارب الجزائري الفرنسي في مجالات الاقتصاد والمالية والطاقات المتجددة وغيرها، لسنا ضد هذه الأشكال من التعاون لأنها من صميم العلاقات الطبيعية بين الدول، لكننا مقتنعون بأنه من المفترض أن تحمل زيارة ماكرون إلى الجزائر هذه المرة إجابات مقنعة عن موقف الإدارة الفرنسية الحالية من الماضي الاستعماري في الجزائر الذي يمثل صفحة سوداء لا يمكن طيُّها ولا تبييضُها بالحوارات والتصريحات، بل تحتاج إلى قرارات جريئة تستجيب لمعايير الرؤية العادلة والمتوازنة التي تتبناها الجزائر سلطة وشعبا.
للجزائر مبدأ ثابتٌ إزاء الحقبة الاستعمارية وهو أن دماء شهداء الجزائر في كل مراحل النضال الثوري غير قابلة للتفاوض، فمن من الجزائريين يقبل التفاوض بشأن دم عميروش وسي الحواس والعربي بن مهيدي وزبانة وباجي مختار وغيرهم؟ هذا الدم هو ثمن سيادتنا وعنوان عزتنا وسرَّ وجودنا ولا تفاوض بشأنه، إنما التفاوض حول الآثار النفسية والاجتماعية التي أحدثها الاستعمار الفرنسي في الجزائر والتي سببت لبعض الجزائريين عاهات مستديمة كما هو الحال بالنسبة لضحايا التجارب النووية في رقان وضحايا التعذيب الوحشي على يد زبانية الفرق الإدارية المختصة SAS”.
كنا ننتظر من الرئيس ماكرون أن يجيب على بعض التحفظات التي أبداها ممثل الجزائر عبد المجيد شيخي حول ملف الذاكرة وإذا به يعود بنا إلى نقطة الصفر بدعوته إلى تشكيل لجنة تاريخية مختلطة جزائرية فرنسية لمعالجة ملف الذاكرة وما سماه “حرب الاستقلال في الجزائر”. لم أهضم شخصيا هذه التصريحات ولم أتحمس لها ولا أعلق عليها أملا كبيرا لأن الإشكال ليس في اللجان ولكن في العمل في الميدان. لم يجبنا ماكرون عن فحوى التقرير الذي سلمه له المؤرخ بنيامين ستورا ولا نعلم أيضا الأسباب التي كانت وراء تعثر النقاش بشأن هذا الملف وفيما إذا كان الإليزي يريد الاحتفاظ بستورا أو استبداله بشخصية تاريخية أخرى. لم يصرح ماكرون بشيء من هذا واكتفى بالإعلان عن تكليف لجنة تاريخية مختلطة لبحث ملف الذاكرة وحرب الاستقلال في الجزائر!.
لقد أبدى ماكرون في عهدته الرئاسية الأولى -وجدد ذلك في بدايات عهدته الرئاسية الثانية- حسن النية حيال ملف الذاكرة وأبدى أكثر من هذا التزامه بالتعاون مع الطرف الجزائري للتوصل إلى حل توافقي يُرضي الطرفين، لكن بين الأقوال والأفعال بون شاسع فإلى حد الآن لا نعرف لماكرون موقفا صريحا من هذا الملف.
نقدر في الرئيس ماكرون حسن النية ونحمل تصريحاته على مبدأ قرينة البراءة، لكن حسن النية وحده لا يكفي لمعالجة ملف شائك كملف الذاكرة أو الماضي الاستعماري، وإلى أن يتحوّل ماكرون من مستوى “إنما الأعمال بالنيات” إلى مستوى “العبرة بالأفعال وليس بالأقوال”، فإننا نهيب بنخبتنا التاريخية أن تدلي بدلوها في هذا الملف بما يعزز موقف الجزائر من الاستعمار.
اطلعتُ على المقترحات الاثنين والعشرين التي تضمَّنها تقرير بنيامين ستورا حول الذاكرة والذي سلمه إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقد سجلتُ تحفظات شخصية على هذه المقترحات بدءا بمقترح ستورا تشكيل “لجنة الذاكرة والحقيقة” التي يقترح أن تضم شخصيات منخرطة في الحوار الفرنسي الجزائري، وذكر من هذه الشخصيات فضيلة الخطّابي رئيسة مجموعة الصداقة الفرنسية الجزائرية في الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، وكريم أملال السفير مندوب الوزارات لمنطقة المتوسط ولفيفا من المؤرخين والباحثين وقادة الجمعيات. إن ملف الذاكرة ليس كغيره من الملفات وهو على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة في آن واحد، لذلك يجب أن يستجيب المقترحون في هذه اللجنة المختلطة لمعايير الموضوعية وألا يكونوا أو أحدهم يحملون فكرا معاديا للثورة أو منخرطا أو متعاطفا مع كيانات معادية للجزائر. هذا الكلام ليس موجها لكريم أملال وفضيلة خطابي وإنما هو كلام عام يمليه واجب الاحتراز في مثل هذه الحالات.
لقد اقترح ستورا إقامة تمثال للأمير عبد القادر في “أمبواز (إندري-إي-لوار)” حيث عاش هناك في منفاه بين 1848 و1852 ويكون ذلك-حسبما أضاف ستورا– في الذكرى الستين لاستقلال الجزائر. لست من المتحمسين ولا من المؤيدين لفكرة إقامة النصب التذكارية لقادة الثورة والمقاومة الجزائرية وأنا في ذلك على مذهب الشاعر محمد العيد آل خليفة : إن ذكرى الشهيد أرفع من أن ترفعوها بالصخرة الصماء فأقيموا لهم تماثيل عز في قلوب ثورية الأهواء. رغم ذلك فإنني أعتبر إقامة تمثال للأمير عبد القادر التفاتة ذات رمزية يمكن أن تمهِّد الطريق لحوار جاد حول موضوع الذاكرة.
إنني أشعر بالفخر والاعتزاز حينما أقف بمحاذاة اللوحة التذكارية التي أقيمت في ضاحية سان دوني في باريس لضحايا حادثة نهر السين، وأشعر بالفخر والاعتزاز حينما أجلس في الساحة التي أقيمت فيها اللوحة التذكارية لموريس أودان في قلب مدينة ليون، وأشعر بالفخر والاعتزاز حينما أولي وجهي تلقاء مدينة قادر ( Alkader City Lowa في الولايات المتحدة الأمريكية التي سمِّيت باسم الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، أشعر بالفخر والاعتزاز بكل هذا ولكنني أؤمن أن قيمة الشهيد أكبر بكثير من صنم أصمّ يحاكي ملامح الشهيد ولا يحكي لنا قصته البطولية، فوحده المؤرخ الوطني من يدوّن لنا هذه الحكاية وينقلها إلى الأجيال التي تأني بعدنا بكل أمانة.
في تقرير المؤرخ ستورا حول الذاكرة مقترح لافت للنظر يتعلق ب”الحركى” إذ يوصي التقرير بالتفاوض مع الجزائر حول تنقل “الحركى” وعائلاتهم بين البلدين. لست أنا من يقرر بشأن هذا المقترح الخطير ولكنني أقول من موقع مواطن بسيط غيور على وطنه إن كلمة “حركي” في الثقافة الشعبية والرسمية في الجزائر تعني الخيانة وأيّ خيانة؛ إنها الخيانة العظمى خيانة الوطن ولا أعتقد أن من الجزائريين من يخالفني في هذا الرأي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!