-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عودة الشيخ المربي أحمد تيمقلّين السّرحاني في كتاب مُحْكم

عودة الشيخ المربي أحمد تيمقلّين السّرحاني في كتاب مُحْكم

لما قطعت شوطا معتبرا في الإطلاع على كتاب: “المصلح والمربي أحمد تيمقلين السرحاني” (1912ـ 1968م) الذي وضعه نجله الأخ الأستاذ صلاح الدين، لمع في خلدي سؤال يضمر رجاءً، ولعلّ نفس السؤال طاف في أذهان غيري ممن اطّلعوا على الكتاب، ويقضي سر هذا السؤال بما يلي: ماذا لو يترسّم كل من يملك قدرة على الكتابة خطوات مؤلف هذا الكتاب، ويسير على نهجه، ويخرج يراعته من غمدها، ثم يبريها بقدر ما تحتمل، ويتصدى بعدئذ إلى انتشال عظيم من عظماء هذه الأمة من مهاوي النسيان، وإخراجه من دهاليز التناسي التي فُرضت على نجوميته وحجبتها عن العيون، وبعث اسمه من جديد بعد أن يشيع في الناس أعماله المجحودة وجهاده المتستر عليه في سبيل خدمة وطنه وإنقاذ وإسعاد أبناء ملته؟. وأدعوه إلى الاستعانة بالمقولة العربية المأثورة التي تنص على: (من أرَّخ مؤمنا، فكأنما أحياه) حتى يستل من معانيها ما يستطيع من القوة التحفيزية التي تلهب عزيمته، وتسعّرها وتذكيها.

اختصرت الجملة التي افتتح بها الأستاذ صلاح الدين مقدمة كتابه أكوام وتلال الاغتياظ التي اندسّت في قلبه سنوات طويلة، والدالة عن حجم التجاهل والتغييب القسريين المسلَّطين على المرحوم والده صاحب الذكر الزكي، وتنطق هذه الجملة بما يلي: (التاريخ أنصفه، وثبَّته درَّة ثمينة لامعة في جبينه، فمتى ينصَف من قبل الذين أنقذهم من غياهب الجهل والذلِّ والهوان؟). (ص: 5).

تمكّن الأستاذ صلاح الدين من الانتقام أدبيا لوالده في كتاب محكم البنيان ومتقن المتن بما حوى بين دفتيه، وعامر بسيول المعلومات الدقيقة التي يصعب أن تصوَّب نحوها سهامُ النقد والتشكيك والتجريح. وحمل لومه وغيظه على أكتاف تلامذته وعارفيه الذين تجاهلوا فضله وكرمه اللذين وزّعهما عليهم بيد سخية. وفي المقابل، تترّسوا باسمه لجني الفوائد لأنفسهم وتجميل مساراتهم. ولو حلّ الإنصاف، لنظر إلى كتاب الأخ الأستاذ صلاح الدين نظرة تقدير، ومنحت له شهادة جامعية عليا؛ لأنه يتفوق عن خربشات الجامعيين التي كثيرا ما تكون خيوط نسيجها مستقدمة من السلخ والسرقات والانتحال، ومجلوبة من عمليات السطو بعد التحلل من الأمانة العلمية وما تقتضيه من التزامات في البحث.

لم يتكلف الأخ صلاح الدين لكتابة سيرة تمجيدية عن والده الذي خلفه حين التحاقه بالرفيق الأعلى طفلا غرّا صغيرا في العاشرة من العمر، ولم يبلغ حتى مرحلة التمييز، ولم تشبع عيناه وعيون أخيه الأستاذ الفاضل جمال الدين وأختيه من النظر في وجهه، وإنما أنجز عملا علميا معتدلا جعله يكثف من برِّه وإحسانه ووفائه نحو هذا الوالد الكريم.

كان الشيخ أحمد تيمقلين السرحاني، رحمه الله، تلميذا متميزا في ذكائه ونجابته في حلقات المربي الكبير الشيخ عبد الحميد بن باديس، ومن المقربين منه. وقد نطق، ذات مرة، بجملة جمعت أطراف الثناء عليه بعد الإعجاب به، وقال متحدثا إلى كل من شرد ذهنه، وغير مدرك لما يدب حوله: (إن كنت سرحانا، فأقصد مجلس السرحاني). وهل يوجد في لغة العرب مدحٌ حسن يصدر من مربّي حيال أحد متعلميه يداني أو يضاهي هذا المدح الجميل؟.

تحوّلت غضبة الابن البار إلى وقود هيّجت ثورته، لأن موضوع والده ظل يتعبه ويغيظه، ولا أحد يستطيع أن يعترض على قوله لما قال: (إننا اليوم، حقيقة ودون أدنى مراء، في زمن العبثية، وفي زمن تهميش الرجال الأجلّاء ذوي المراتب السامقة الذين خدموا هذا الوطن بكل صدق وأمانة. ولا يريدون من أحد جزاءً ولا شكورا، وجعلهم نكرات للأجيال من خلال طمس معالمهم ومحو آثارهم والقضاء على كل ما يشير إلى وجودهم من بعيد أو قريب. وهذا هو العبث بتاريخ الأمة ورجالها. والعمل على إبراز البعض والتنكُّر للكثيرين الذين كانوا يلبُّون النداء، نداء الدين والتاريخ والجغرافيا، وليس نداء الأشخاص والأحزاب والجمعيات). (ص: 6 و7).

رغم أن الأستاذ صلاح الدين كتب عن أقرب الناس إليه، إلا أنه تجرّد من حمية الأنا التعصبية، ولم يتعلق بالذاتية، وإنما تلفف بالموضوعية، ورضي بمبدأ الحياد، وجنّب نفسه حتى التعليق عن أعمال والده وتضحياته ومواقفه التي تُظهر صرامته وثباته وصلابة رجولته، وهذا ما سطره في السطور الموالية: (حاولتُ في هذا الكتاب أن لا أبدي رأيا أبدا في أي قضية تاريخية سواء في العهد الاستعماري البائد أو في زمن الاستقلال، وأن أكون محايدا فيما عُرض من قضايا ما استطعت، مبتعدا عن التحليل والتأويل، حتى لا أربك القارئ الكريم، أو أفرض عليه رأيا قد لا يكون مستنبطا، وليست له علاقة بالواقع إطلاقا). (ص: 8).

كغيره من رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، عانى الشيخ أحمد تيمقلين السرحاني كثيرا من مضايقات الاستعمار الفرنسي واضطهاده، ولكنه صبر على المحن التي واجهته. وظل يطوف متنقلا بين عدة أماكن في الأوراس بلا توقف لنشر رسالته. وبعد مجازر الثامن ماي 1945م، ألقي عليه القبض، ولُفِّقت له عدة تهم تدور حول محاولة تحريضه أبناء الشعب على العصيان وكسر عصا الطاعة في وجه فرنسا.

توزعت مادة كتاب: “المصلح والمربي أحمد تيمقلين السرحاني” التي غطت ثلاثمائة وخمسين صفحة غير مهوّاة، ومحشوّة حشوا مكتنزا، ومكتوبة بأحرف صغيرة، مما يدل على غنى حياة المترجَم له ويُثبت مدى خصوبتها، توزعت على سبعة فصول مرتبة ترتيبا كرونولوجيا متلاحقا.

تناول الفصل الأول مرحلة المنبت وطلب العلم، ومنها نعرف أن الشيخ أحمد تيمقلين السالمي السرحاني قد وُلد في 20 أكتوبر 1912م في منطقة جبلية وعرة، وشحيحة الموارد المائية تسمى “أيدال” في عمق جبال الأوراس الأوسط. واستطاع أن يأتي على حفظ كتاب الله في سن السابعة من عمره. ثم لازم شيخه الأول بالجلوس محاذيا لركبتيه مدة سبع سنوات. وعلى يديه تلقى دروسا ومبادئ قاعدية في عددٍ من العلوم الدينية. وفي سنة 1927م، انتقل إلى زاوية عائلة تبرماسين ثم إلى المدرسة الناصرية بمدينة خنقة سيدي ناجي. وفي سنة 1936م، شدّ الرحال إلى الجامع الأخضر بمدينة قسنطينة، وانضم إلى حلق الشيخ ابن باديس الذي أحبّه قبل أن يعرفه.

كغيره من رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، عانى الشيخ أحمد تيمقلين السرحاني كثيرا من مضايقات الاستعمار الفرنسي واضطهاده، ولكنه صبر على المحن التي واجهته. وظل يطوف متنقلا بين عدة أماكن في الأوراس بلا توقف لنشر رسالته. وبعد مجازر الثامن ماي 1945م، ألقي عليه القبض، ولُفِّقت له عدة تهم تدور حول محاولة تحريضه أبناء الشعب على العصيان وكسر عصا الطاعة في وجه فرنسا.

وخصص الفصل الثاني من الكتاب للوقوف على الجهود الجبارة والمضنية التي سخرها الشيخ أحمد تيمقلين السرحاني في تأسيس المدارس لإشاعة نور العلم أمام أطفال الشعب المقهور والمحروم؛ لأنه يدرك أن شعبا متعلما هو شعبٌ لن يُستعبد. ومنها مدرسة مشونش التي تعلّم فيها عددٌ من مجاهدي ثورة نوفمبر وشهدائها. وبعد أن أوقد وهج حركة تعليمية في هذه القرية المعزولة، انتقل إلى الولجة ليؤسس مدرسة أخرى. إلا أنه لم يمكث فيها سوى سنة واحدة. وقبل العودة إلى عرينه الأول بمشونش، حط الرحال بين أهله وذويه، ولم يبخل على أبنائهم من عدة علمه الوفير وتوجيهاته إعدادا وتهيئة لهم للمستقبل.

أما في الفصل الثالث، فنقرأ بسطة مفصلة عن دوره المحمود في الثورة التحريرية. وفي المقابل، حوى الفصلُ الرابع متابعاتٍ مستفيضة عن ضخامة أعماله في سلكي الشؤون الدينية وفي التربية والتعليم بعد استرجاع الاستقلال رغم أنه لم ينعم بهواء ونعيم الحرية سوى مدة ست سنوات قبل أن تخطفه المنون وهو في أوج عطائه وأوسعه. وقد حُقَّ له أن يستغني عن كل فخر بعد أن حاز فخر المشاركة في تأسيس قاعدة التعليم الأصلي في الجزائر وتولي إدارة أول ثانوية معرَّبة للتعليم العام في ولاية باتنة، وهي ثانوية الشهيد عباس لغرور التي كان الطلبة يقصدونها حتى من أقصى الجنوب الشرقي للبلاد.

نقرأ في الفصل الخامس مقاربة للولوج إلى شخصية الشيخ أحمد تيمقلين السرحاني من خلال مواقفه الكثيرة وكتاباته الموزَّعة بين عدد من الصحف السيارة والمجلات. وفيه إشاراتٌ تلميحية إلى بعض الممارسات اليدوية التي كان متمكنا منها كالعلاج الطبي بالأعشاب. في حين، شمل الفصل السادس نماذجَ من محاضراته ودروسه وخطبه التي أراها مادّة مفيدة أمام الباحثين للنظر فيها من جوانب عديدة، واستنكاه الفوائد منها.

أفرد الفصل الأخير، وهو الفصل السابع، للثناء على الشيخ أحمد تيمقلين السرحاني ولرثائه في يوم توديعه في مقبرة مدينة باتنة التي ضمت تربتها جثمانه الطاهر بعد أن شيِّعت جنازته في موكب عظيم كثر أنفاره الذين تقاطروا على مدينة باتنة من كل حدب وصوب والألم يقطع قلوبهم، وكلهم بين ناطق وصامت يتأسّفون على رحيله المبكر.

شكَّل شخصي المتواضع مع أخوين اثنين، رحمهما الله، الثلة القليلة التي استثناها الأخ العزيز صلاح الدين من قائمة المتنكِّرين لوالده. ومن جهتي، فإنني لا أعتبر أن محاولاتي المبتسرة في التعريف بهذا المربي الممجد الذي لا أعرفه في بعض المنابر والجرائد تمثل شيئا ذا شأن كبير.

أرى أن هناك فرصة تعويضية أمام من فاته التعرف إلى الشيخ أحمد تيمقلين السرحاني من أبناء جيلي والأجيال التي لحقته، وما عليه سوى الاقتراب من نجله الأستاذ صلاح الدين وابن شقيقه العم مصطفى، وأقصد الأستاذ والمفتش والصديق الأخ عبد الحفيظ، ففيهما آثار باقية من مقومات شخصيته الفذة في العمل والمعاملة، وفي الطهر والصفاء، وفي الصدق والصداقة، وخاصة هذا الأخير صاحب الأيادي البيضاء التي لا تنتهي خيراتُها كما جاء وصفُه الثمين في الإهداء. ومن زكاه الأخ صلاح الدين لا يحتاج إلى بصمة بيان من أيِّ أحد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!