الرأي

غرناطة.. جولة بين أسوار الذّاكرة

الشروق أونلاين
  • 1127
  • 13
ح.م

إنّها مدينة بروحين مسلمة مغاربيّة ونصرانيّة قشتاليّة.
غادرها الأمير أبوعبد اللّه والدّموع في عينيه.
لكنّ إرث المسلمين الثّقافي لا يزال يُلهم الرّسّامين والشّعراء والموسيقيين.

ضاع كلّ شيء!

ألقى أبو عبد اللّه الصّغير نظرته الأخيرة على مدينة غرناطة،فعصفت بقلبه ريح الأسى وزفرت روحه من أعماقها وجاشت بالدّمع، لمّا رأت أعلام ملوك إسبانيا ورايات فرسان شانت يعقوب ترفرف على أبراج الحمراء. وحسب الأسطورة القشتالية فإنّ أمّه عائشة الحرّة كانت تُسايره فقالت له مؤنّبة:” إبكِ مثل النّساء ضياع مدينة لم تُحافظ عليها مثل الرّجال”.
و يقع المعبر الّذي بكى فيه أبوعبد اللّه أحدى عشر كيلومترا جنوب مدينة غرناطة ولا يزال يحمل الى اليوم اسم : ” “زفرة العربيّ الأخير “. ويقوم في نفس المكان الّذي رحل منه مُنتزه تخييم يتودّد الى الزَّائرين عسى أن يفوز باستضافتهم أيامًا و لياليَ.
وليس زوّار اليوم هم من عرف قدرغرناطة واكتشف جمالها، فقد استحسن مناخها وخصوبة أراضيها الفينيقيّون والرّومان والوندال قبلهم واستطابوا العيش فيها. حتّى أنّ اسم المدينة (غرناطة ) مُشتقّ من ثمرة الرّمّانة التي جاء بها الفينيقيّون من بلاد فارس الى شبه الجزيرة الايبيريّة قبل وصول العرب اليها بقرون.
ــ أمير غرناطة تابع للتّاج القشتالي.
كانت غرناطة آخر زهرة للثّقافة الإسلاميّة تتفتّح على أرض إيبيريا و يتضوّع فيها عطرها،وآخر ما بقي للمسلمين فيها. بدأت أيّامها الذّهبيّة عقب انتصار الجيوش النّصرانية في معركة حِصن العُقاب (نافاس دي تولوزا) سنة 1212م على جيوش الموحّدين. فبعد هذه الهزيمة التي هزّت أرجاء الأندلس كلّها وجد محمّد بن نصر أحد أبناء شمال الأندلس فرصته، وبدل أن يقاتل القوّات النّصرانيّة الغالبة قرّر الدّخول تحت سُلطة الملك القشتالي فرديناند الثّالث وإعلان الطّاعة له. وأسّس بموافقته إمارة غرناطة واتّخذ من المدينة التي تحمل اسمها مقرّا له. وكدليل ولاء وطاعة بعث 500 مئة مقاتل ضدَّ إخوانه في العقيدة ولدعم الملك الكاثوليكي فرديناند الثّالث الّذي كان يحاصر مدينة اشبيليا سنة 1248م، فكان لهذا التّعاون مكافأته: لقد بقيت غرناطة آخر جزيرة للإسلام على أرض ايبيريا لأكثر من قرنين.
بلغ عدد سكّان مدينة غرناطة عاصمة الإمارة الأخيرة حدود 100 ألف ساكن إبّان القرن الرّابع عشر، أمّا سرّ ثروتها وغناها فكان ثمرة تجارتها الخارجيّة وصادراتها المتمثّلة في صناعتاتها الحرفيّة والزّليج، والسّكر والفواكه المُجفّفة والتي بقيت الى اليوم من خصائص المنطقة، لكن لا شيء كان يُغري النّفوس ويستهويها مثل الحرير الغرناطي، حرير المدينة الّذي كانت تحمله سفن جنوة و بيزَّا الى قصور ملوك وأمراء أوربَّا.

الحمراء فنّ عمران من عالم آخر

إنَّ ممّا نأسف له أنَّ القليل من المباني الإسلاميّة في وسط المدينة استطاعت الى اليوم أن تُقاوم تقلّبات الزَّمن. ففي المكان الّذي كان يُعمّره المسجد الكبير غير بعيد عن سوق القيصريّة بباب الرّملة ترتفع كاتدرائيّة لا يزال بعضًا ممّا تبقيَ من المدرسة الإسلامية اليوسفيّة يلتصق بحيطانها . كما أنّه لم يبق من المدينة العتيقة إلاَّ أجزاءً منها وبعض القصور. أمّا حيُّ البيّازين الحي العربيّ العريق فقد أخفى بين حناياه حمّاما عربيًّا من العصر الوسيط لم تمتدّ إليه أيادي التَّعصّب النّصراني.
إنَّ أكثر ما يجذب الثّلاثة ملايين سائح الّذين يزورون غرناطة كلَّ سنة هي القلعة التي تضمّ قصور الحمراء والتّي اتخذتها سُلالة بنو نصر منذ بداية القرن الرّابع عشر مقرّا وسكنًا لها. ولعلَّ من تمكّن من رؤيتها بعينه ورُؤية جمال أبهائها، وحدائقها، وفوّرات الماء بداخلها، أمكنه فهم سبب زفرات أبي عبد اللّه الصّغير وبكائه.
كان الجغرافي وعالم الآداب القديمة هيرونيموس مينتسار من مدينة نورمبارغ أوّل من زار المدينة بعد سقوطها سنة 1494م فكتب قائلاً: ” لا أعتقد أنَّ لها شبيها على كامل أرض أوربَّا، كلّ شيءٍ فيها يوحي بالجمال والعظمة والكمال وتنوّع مواد بنائها، حتّى أنّ المرء ليظنُّ نفسه في جنَّة الخلد “.
إنّها الحمراء، صورة بشريّة لما ستكون عليه الحياة في الجنّة بعد المماة، وأحواضها وينابيعها يشهدون على ما وعد اللّه به عباده المؤمنين في القرآن. إنَّ شكل وهندسة القصور توحي إليك أنَّها من عالم سماويّ، أمّا أقواسها التي تتماوج فوق أعمدتها وقبابها فتغرق في زخأرفٍ لا تنتهي إلاَّ في العالم الآخر”.
وعندما زار الشّاعر الأمريكي واشنغطن ايرفينغ اسبانيا في بداية القرن التّاسع عشر رأى فيها أروع مخبإٍ يمكن أن يفرَّ إليه المرء من ضيق هذا العالم. فكتب قائلاً: ” لا يحتاج المرء في الواقع إلى خيالٍ واسع، ولا أن يكون مجنونًا حتّى يرى سيّدة حريم القصر تتجوّل متأمِّلة ومفكّرة بين أبهاء هذا البُنيان الشّرقيّ الفاخر “.
بدأت نهاية هذه الحكاية التي تُسمّى غرناطة في ال19 من أكتوبر 1469م، في ليلة زفاف إيزابيلاَّ القشتاليّة والملك فرديناندو الأراغوني وكان وليد هذا الزَّواج اسبانيا الموحّدة والقويّة والّتي أوكل اليها احياء المهمّة القديمة.
فبعد مئات السّنين من التَّعايش السّلمي — هذا إذا غضَّ المرء طرفه عن تلك المناوشات والإشتباكات التي كانت تحدث على الحدود بين الفينة والأخرى–أُحيِيَت حرب الإسترداد من جديد خاصّة بعد صعود نجم العثمانييّن واستلائهم على القسطنطينيّة في مايو1453م، واتصال بني نصر بالسّلطان العثماني بسفارتين يطلبون منه النّجدة والدَّعم العسكريّ.
وأمام هذا الرُّعب من الأتراك أصدر البابا سيكتوس الرّابع سنة 1482م قرارًا بابويًّا يرفع فيه الحرب على غرناطة إلى حربٍ صليبيّة مُقدّسة، كما أعلن عزمه دعم المعركة ماليًّا.
نجحت الجيوش النّصرانية في مسعاها فحاصر 10 آلاف فارسٍ و30 ألفًا من الجنود أبواب مدينة غرناطة، وفاوض ساكنتها المسلمون على تسليم المدينة وشروطها فبدت لهم شروط الإستسلام سخيّة وعادلة وتعهَّد لهم الملكان:
1ــ حرّة العقيدة وممارسة العبادة
2ــ يبقى لهم قُضاتهم وفق شريعتهم.

3ــ العفو عن جميع المقاتلين.

وفي الـ2 من جانفي 1492م سلّم محمّد بن نصرٍ الثّاني عشر مفاتيح المدينة وانتهت بذلك إمارة غرناطة وصارت من الذّكريات وأخرج آخر ملوكها من جنَّة الحمراء.

غير أنّه لم تمرّ إلاَّ سنوات قليلات على سقوط غرناطة حتّى ضيّق الملكان الكاثوليكان على ساكنتها من المسلمين واستفزّوهما فأعلنت الثّورة سنة 1500م فكانت فرصتهما فأغلقا جميع مساجد المدينة ولم يبق للمسلمين من بديل إلاَّ الهجرة أو التَّحوّل إلى النّصرانيّة، وهُدم المسجد الجامع وقامت في موضعه كاتدرائيّة غرناطة، واختار فرديناند وإيزابيلاَّ أن يكون بها قبراهما،وأن يُكتب على شاهدهما:” هنا يرقد من قضيا على الملّة المُحمّدية وأزالا الهرطقة والأديان الكاذبة “.

حدائق اسبانيّة. أغاني أندلسيّة. وموت شاعر

بعد 500 سنة من موت الملكين الكاثوليكيين أعادت غرناطة تسويق ماضيها العربيّ الإسلاميّ، فتحوّلت المحلاّت في حيّ البيّازين إلى سوقٍ بنكهةٍ عربيّة تعرض كلّ ما هو عربيّ من أقداح القهوة وأكواب الشّاي إلى النّرجيلة. وسعت المطاعم العربيّة الى كسب ودّ السّواح وجذب انتباههم.

إنَّ ما يشدُّ انتباه المرء وهو يتجوّل بين أزقّة غرناطة هو محاولات التّمسك بالتّقاليد الإسلاميّة : فمنذ سنة 2003م صار للمجموعة الإسلاميّة المتنامية بالمدينة مؤسّساتها و مسجدها،والعجيب أنَّه بالقرب من هذا المسجد تقع دار المؤلّف الموسيقي السّابق إيمانويل دي فلاَّ الّذي تغنّى بجمال جنَّات العريف القصرالصَّيفي للنّصريين بحفلة البيانو ” ليالي في حدائق اسبانيا “

كما نظّم فالاَّ  سنة 1922م مع بعض أصدقائه وزملائه الموسيقيين بالحمراء مسابقة لأغاني الفلامنكو التي ترجع في جذورها الى الموسيقى الأندلسية من أيَّام العرب المسلمين.

ومن أقرب أصدقاء عازف البيانو أشهر وأهمّ شعراء اسبانيا الحديثة فريديريكو غارسيا لوركا الذي كانت غرناطة مُلهمته وسبب تعاسته. قضى حياته بمدريد شاعرًا ومؤلّفا مسرحيًّا وفي سنة 1936م سافر الى مدينته الحبيبة غرناطة في زيارة لوالديه ولكي يقضي عطلة الصّيف فوقع الإنقلاب العسكري الذي قاده الجنيرال فرانكو فألقي عليه القبض وحوكم باعتباره من اليسار وأعدم على الفور وألقيت جثّته في بئر لا يُعرف الى اليوم مكانها. وفي احدى أغانيه تنبّأ بهلاكه وأنّ نهايته ستكون مثل نهاية أبي عبد اللّه الصّغير:

السّفن تعرف مجراها الى إشبيليا .. وعلى مياه غرناطة يُجدّف صاحب الزَّفرات.

– المقال مترجم من مجلة: G/Geschichte 6. 2018

– العنوان الأصلي: Eine Spurensuche: Granada

مقالات ذات صلة