-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

غليزان: عاصمة الوسطية

غليزان: عاصمة الوسطية

تحية أرق من نسائم الفجر الحالمة، وأعطر من ضحكات هذا الربيع الجميل الذي تفتحت أكمامه أرسلها إلى مدينة غليزان المضيافة، وأهلها الميامين الذين حل بساحتهم الملتقى الدولي الخامس حول (تعزيز الوسطية في الفكر الديني والحياة العامة). وذلك يومي 20 و21 مارس 2017.

وهو ملتقى علمي كريم تنادت إليه ثلة من خيرة العلماء والباحثين من داخل الجزائر وخارجها، وقد تشرفت أو تطفلت بإلقاء مداخلة بعنوان (الوسطية في الإسلام، مفهومها، مكانتها، ميادينها).

ولأهمية الموضوع أولا، لما يوجه إلى ديننا من سهام التطرف والإرهاب، ولأننا نعاني من حالة يمكن أن نسميها مجتمع الأطراف ثانيا إذ أصبحت الوسطية مفهوما وسلوكا تعاني حالة من الغربة في أتون هذه الحرب التي نعيشها من التجاذبات.. لذلك كله، رأيت أن أشارك إخواني القراء في مناقشة بعض خلاصات البحث مع كثير من الإيجاز والتحوير الذي يفرضه المقال الصحفي الذي يختلف عن البحث العلمي في كثير من الخصائص والميزات. 

إن دين الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال، وليس هذا الكلام من قبيل الانفعال الإنشائي الخطابي، ولكنه الحقيقة التي دل عليها دستور الإسلام الخالد وهو القرآن الكريم، وأيدتها نصوص السنة الشريفة، وأحكام الشريعة في تطبيقاتها الجزئية والكلية. 

يقول الله تعالى في معرض بيان منهج هذه الأمة المحمدية الشاهدة على الأمم و ممتنا عليها: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). 

وهذا المنهج الوسط هو الذي علمنا الله أن ندعوه بالهداية إليه في كل صلاة يؤديها المؤمن من فريضة أو نافلة في جنح الليل أو لمعة الفجر (اهدنا الصراط المستقيم).

والمنهج الوسط هو الذي أمرنا الله بسلوكه وتنكب مناهج الغي المتناثرة عن يمينه وشماله، وهي بنيات الطريق اللاحب المعتدل (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).

ويعبر الإمام ابن القيم رحمه الله عن هذه المعاني تعبيرا جميلا فيقول: “ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو. 

ودين الله بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين…”

إن وسطية الإسلام تنتظم الدين كله في جميع مناحيه وتفرعاته عقيدة وشريعة وسلوكا.

 

 وسطية الإسلام في العقيدة. 

إن العقيدة في الإسلام عقل مستنير متفتح ناقد، ينظر في آفاق الكون الفسيحة وآياته مستدلا على وجود خالق حكيم أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، كما ينظر في آيات الكتاب المنزل وما حواه من أدلة عقلية باهرة تهدي إلى إيمان مستقر على قدم راسخة من حسن الجدال والإقناع. 

كما أن العقيدة في الإسلام عاطفة جياشة، تدفع إلى العمل المثمر، وترفض الأساطير والدروشة. 

إن العقيدة الإسلامية ليست نظريات فلسفية عقيمة، تحمل العقل عنت البحث في مجاهل ما وراء الطبيعة، ثم لا تزيده بعد طول شرود إلا حيرة وخبالا، وليست تهويمات مجنحة تسلم قيادها لأباطيل السحر وأساطير الآلهة الباطلة. 

كما تتجلى وسطية الإسلام في العقيدة من خلال ما قرره العلماء من أن ثمرة العقيدة الإسلامية هي الفوز بسعادة الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا فبانتظام أمر المعاش بالمحافظة على العدل، والمعاملة التي يحتاج إليها في بقاء النوع الإنساني على وجه لا يؤدي إلى الفساد، وأما في الآخرة فبالنجاة من العذاب المترتب على الكفر، وسوء الاعتقاد. 

 

الوسطية في الشريعة. 

وتنتظم العبادة، والمعاملة، والأخلاق والسلوك. 

إن العبادة في الإسلام تجمع بين أشواق الروح ومطالب الجسد، فهي ليست تسابيح حالمة في عالم الأرواح تغفل خصائص الفطرة البشرية، كما أنها ليست إيغالا في عالم المادة وترديا في مهاوي الحيوانية البغيضة. 

وإنما شعار العبادة في الإسلام هو قول الله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا).

وقد وردت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة تنهى عن التشدد والغلو، ومجاوزة الحد في العبادة، وتأمر بمراعاة الضعف البشري، وبيان أن نفي الحرج والتضييق هو سمة الشريعة العامة (وما جعل عليكم في الدين من حرج).

ومن القواعد المقررة عند علماء الشريعة قولهم: (المشقة تجلب التيسير) وقولهم: (إذا ضاق الأمر اتسع) وقولهم: (لا تكليف إلا بمقدور).

وإذا كان من الأصول المقررة في الشريعة أن العبادات مبناها على المنع والتوقيف إلا بدليل منعا من تسرب البدع والمحدثات التي أفسدت شرائع الأمم السابقين، فإن الأمر عكس ذلك تماما في باب المعاملات والعقود وتصرفات الناس في معايشهم، فقد قرر علماء الأصول أن الأصل في الأشياء الإباحة، وبناء عليه فيحكم بصحة كل عقد أو تصرف لم يرد في الشرع ما يدل على فساده أو بطلانه.

ففي مجال المعاملات المالية مثلا التي هي اليوم الميدان الرحب الذي كثر فيه لهث الناس وصخبهم، واستغله المستكبرون لامتصاص دماء المستضعفين عن طريق الربا الفاحش والغش والتغرير، نجد أن المنهج الوسط الذي جاء به الإسلام هو الظل الظليل الذي يجب أن تأوي إليه البشرية من وقدة ذلك الصراع المحتدم الذي أضناها، وبعثر جهودها بل أصابها بالجنون والدمار، وأدخلها دوامة الأزمات الاقتصادية الخانقة. 

فبين الله تعالى في كتابه أن البيع والمنافسة الشريفة وتبادل المنافع بين الناس هو مما أحله الله وأباحه، بينما استغلال المستضعفين، واستعباد المحتاجين عن طريق الربا هو من السحت الذي حرمه الله أشد التحريم. 

وإذا كان ميدان القروض والمداينات هو من الميادين التي شهدت في تاريخ البشرية ألوانا من الحيف والظلم وهضم الحقوق، حيث كان الدائن يرهن المدين بالزيادة في الفوائد وفي بعض الأحيان يؤدي به إلى استرقاقه، أو قطع بعض أعضائه والتنكيل به كما عرف في بعض مواد القانون الروماني، أو شرائع الجاهلية الوثنية قبل الإسلام، فإن شريعة الله جاءت بالمنهج الوسط، فقد أمرت بأداء الأمانات إلى أهلها بحكم أن الدين من جملة الأمانات، بينما أرشدت من جهة أخرى إلى الرحمة بالمدين، وإن كان معسرا قد ضاقت كفه عن السداد أن ينظر إلى ميسرة، بل أرشدت إلى منقبة أسمى وأعلى وهي أن يتصدق الدائن بمبلغ الدين على المدين المعسر الذي قد أحكم الدين بخناقه. 

ولعلني لا أكون مبالغا إن قلت إن هذه المنقبة لم تعرفها شريعة في حياة البشرية قديمها وحديثها، فالنظام المصرفي المعاصر إنما أسس أصلا على فلسفة ربوية متوحشة تزيد الغني ثراء، وتزيد الفقير دمارا تكون نتيجته الحتمية الانهيار والإفلاس، أما في شريعة الإسلام العادلة، وسدا لذريعة أكل أموال الناس بالباطل فقد قرر فقهاؤنا أن (كل قرض جر نفعا فهو ربا).

إن منظومة الأخلاق والسلوك والقيم في الإسلام هي صورة وضيئة، وانعكاس طبيعي لما استقر في قلب المؤمن من عقيدة وسطية تتسق مع نظرة تلك العقيدة المعتدلة إلى الخالق والأحياء والكون الذي من حوله، فهي عقيدة تدفع بالإنسان إلى طلب أقصى ما يمكن أن تبلغه الطبيعة البشرية من كمال وسمو في السلوك والأخلاق، وأولى ذلك الكمال الخلقي الاعتراف للخالق سبحانه بالوحدانية والعبودية والخلق والإيجاد، والاستسلام له في الأمر والنهي، لأن أخس دركات الهبوط في الرذيلة منزلة هو جحود الخالق، وكفران نعمه، ورفض القيام بالعبودية له سبحانه وتعالى.

وجاء القرآن الكريم بعد ذلك ببيان كثير من الجزئيات السلوكية والأخلاقية التي تجعل من المؤمن شخصا متوازنا في نفسه وخلقه أولا، ثم مع ذويه ومن يليه، ثم مع مجتمعه الذي يعيش فيه، ثم تتسع الدائرة لتشمل الإنسانية جمعاء. 

من هذا المنهج الأخلاقي المتكامل الذي يعمل عمله في نفس الفرد ليرسخ فيه معاني التوازن والاعتدال والتوسط، ندرك بعدئذ وسطية الإسلام في موقفه من المخالفين في الدين والعقيدة إذ إن تاريخ البشرية مطرز الصفحات بدماء الأبرياء الذين راحوا ضحية لصراعات دينية ومذهبية مجنونة. 

وكم أساء المتشددون المنفرون اليوم إلى الإسلام بخطابهم الخشن الذي تفوح منه رائحة الدم والبارود ظانين بذلك أنهم يعرضون على الناس دين الله كما أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. 

إننا اليوم في هذا الواقع الذي يهدر بوسائل الإعلام المختلفة، حيث تفنن أصحاب الأديان والنحل والشعارات في عرض زخرفهم على الناس، يجب على الدعاة إلى دين الله تعالى وهم يدعون إليه أن يتفيؤوا ظلال أمر الله لهم بأن تكون الدعوة بالموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.

إن عظمة الإسلام ووسطيته في جانبه الأخلاقي والسلوكي- كما في جوانبه الأخرى- يكاد جمالها يأخذ بالأبصار. 

ومعلوم في واقعنا المعاصر، وفي ظل الحضارة المادية الطاغية أن ميدان الحروب هو ميدان تنعدم فيه القيم والأخلاق أو تكاد، وأن الحق للغالب، وأن المنطق السائد هو منطق القوة وحدها، بيد أن الأمر ليس كذلك في المفهوم الأخلاقي الإسلامي، فحتى في ذلك الميدان وبإزاء ركام الجاهلية الذي يكاد يحجب الأنظار، تلوح للناظر قيم الإسلام، ونظمه الأخلاقية العظيمة، فهذا رسول الله وهو يبعث البعوث للغزو لا يغيب عنه أن يوصيهم برحمة الضعيف، وترك الغدر، والكف عمن فرغ نفسه للعبادة ولم يتعرض للمسلمين بسوء، وقبل ذلك وبعده أن يكون القتال لله، لا لعصبية، ولا لانتقام، ولا لغلبة جنس على جنس.

وبعد هذه لمحات تحتاج إلى شرح ليس هذا مجاله، ولكن الشيء الذي لا تفوتنا الإشارة إليه أن الوسطية في ديننا هي وسطية منضبطة الأصول والأهداف والمعالم، وليست متروكة لأهواء العابثين أن يفصلوا منها ما يشاؤون على ما يوافق أهواءهم، ونفوسهم المترعة بالأمراض.

إن وسطيتنا باختصار هي الإسلام كما أنزله الله في كتابه، وبينته السنة قولا وفعلا وتطبيقا.

وأختم بالذي بدأت به من إزجاء الشكر الجميل لمن اختار موضوع الملتقى، وأثار في نفوسنا هذه المعاني لنشرح للناس حقائق ديننا فإن الإسلام كما قال شيخنا الغزالي قضية رابحة محاميها فاشل. 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • Karim

    بالله عليك هل الشباب الذين يذهبون للجهاد في سوريا يعرفون القيادة التي تسير المعارك ضد النظام السوري؟
    و االه أصبحنا ألعوبة في أيدي الإنبريالية و الصهيونية و الأنظمة التي تسير في فلكها .
    و هل الجهاد إلا بالسلاح؟
    و بما أنك تنتقد الملوك والرؤساء فاعلم أن أحسن الجهاد هو كلمة حق عند سلطان جائر.

  • Karim

    الزوايا لم تنتج ارهاب و لا فتن في العالم الإسلامي مثلما فعلته الوهابية السعودية و الشيعة اللذان هما وجهان لعملة واحدة.

  • البهلول الجزائر العميقة

    الدين النصيحة.
    يامهاجر لاتركب رأسك _فالمؤمن كيس فطن _فإن داعش من صنع أعداء الاسلام لتشويهه وضربه من الداخل وهي ذريعة لضرب أهل السنة بالخصوص ألا ترى أن داعش لاتضرب إلا أهل السنة فهل رأيتها يوما ضربت إسرائيل أو إيران؟

  • عبد الله المهاجر

    جمعة مباركة
    جزاك الله خيرا وبارك الله فيك
    لا عليك اخي ,,انا لا أغضب لنفسي بل غضبي لما تنتهك محارم الله تعالى ,,
    غفر الله لك دنيا و أخرة أخي ,,, أحبك وأحبكم كلكم في الله
    نعم أخي حال المسلمين تدمي القلوب اليوم ,,فعلا كالأكلة على قصعتها
    والله يا أخي اننا قوم مسالمون نحب الخير لكل الناس وحتى الجماد ,,ولكنك ترى الكفار يقتلوننا و يستحيوا نسائنا ,,,وبعزة الله اننا نشفق عليهم من يوم مشهد عظيم ,,,رغم انهم يقتلوننا ,,ولكن اعلم أنا عدو الانسان الاول هو الشيطان ,,فااستزلهم الشيطان فأطعوه ,,وحسبنا الله ,

  • المراقب اين الجزائر الحاير

    اختلط الامر على الشيخ
    غيليزان عاصمة الطرقية بامتياز أيها الشيخ بها الزردات والوعدات ’أكبر وعدة على مستوى القطرللمدعو_امحمدبن عودة_ تدوم نصف شهر كامل ترتكب فيها مختلف المنكرات والموبقات ويستغاث فيها بغير الله جهارا نهارا
    فأي اعتدال هذا؟ وأية وسطية؟