الرأي

فصل في التخريب الممنهج

التهامي مجوري
  • 2985
  • 0

منذ مدة وأنا أريد الكتابة عن هذا موضوع “التخريب الممنهج”، ولكن بقيت مترددا، رغم أن الفكرة ناضجة في ذهني، وأعراضها مبثوثة في واقعنا الجزائري، لا تحتاج إلى دليل على إثباتها وإثبات صحتها، من وقائع ووثائق وشهادات ونواياها؛ بل لا يبذل الملاحظ العادي جهدا للوصول إلى ذلك؛ لأن ما يلاحظه من اضطرابات واهتزازات واختلالات في مجالات كثيرة بواقعنا الجزائري، لا يوحي بالحرص على مصلحة الجزائر ومستقبل الجزائريين؛ بل ربما ارتقى الإهمال من مستوى عدم الحرص إلى مستوى التخريب الممنهج لصالح جهة أو جهات ليست لها علاقة بالمصلحة الوطنية.

 والسبب في ترددي في الكتابة، ليس وفرة المادة والمعلومات المتعلقة بالموضوع، وإنما لأن الموضوع متشعب وطويل لا يكفي معه مقال في مساحة محدودة، وإنما ربما كان موضوع كتاب.

فعندما يرى المرء منطقة صناعية أقيمت على أرض فلاحية، وفي مقابلها أرض صخرية مهملة على طبيعتها التي خلقها الله عليها، وعندما يرى في ولاية معينة غنية بينابيع المياه، وتترك هذه الينابيع، ثم تجلب المياه لهذه الولاية من منطقة أخرى تبعد عنها مئات الكيلومترات أو حتى عشرات، وعندما نرى حدودنا الغربية والشرقية، تهرب منها الأغنام والصوف والتمور والبنزين، وتجلب الزطلة والمواد الكهرومنزلية وبعض الألبسة التي يمكن استيرادها بأثمان أفضل، وعندما نرى ان الضرائب المفروضة على المواطنين لا تحصل الإدارة منها إلا النزر اليسير بسبب ارتفاعها أو بسبب سوء طبع فينا.. كل ذلك يعني أننا نسيِّر أمورنا وفق منهجية تخريبية لكل ما هو وطني، ولا علاقة لما نرى بالنظام والعلم وحسن التسيير والتديير، وإنما هناك أهواء تسير البلاد بما يشبه القوانين الوطنية، وهي في أحسن الأحوال عبارة عن استنساخ لتجارب غير ناجحة، او تقليد غبي للتجربة الفرنسية في بلادنا، أي بكل بساطة استصحاب تجربة الإدارة الاستعمارية في تسيير بلادنا المستقلة، اما إذا أطلقنا العنان إلى الظنون والقيل قال، فإن هذه القوانين يمكن ان تكون على مقاس زيد وعمرو وعلى هوى القائد وأبن عم القائد وابن عم فلاح القائد، و”صاحب مولى الباش”… وهلم جريا.

إن قانون المالية الجديد 2016، الذي اعتبره البعض قانون عقوبات للشعب الجزائري، واعتبره آخرون تركيعا للجزائر وتآمرا على الاقتصاد الوطني وعلى الطبقة الوسطى في المجتمع، وكذلك تشاكي وتباكي السلطة التي تبشر بأرقامها بكارثة تحل بالجزائر سنة  2017، لا يخرج عن تلك القاعدة التخريبية التي انتهجتها البلاد منذ استعادة السيادة الوطنية. وإلا فإن الجزائر لا يمكن أن تطالها الأزمات التي تمر بها البلدان، مهما اشتدت، إلا بعدما تحصد ثلثي العالم؛ لأنها بلد غني وأرض شاسعة ومجتمع شبابي حي.

وعملية التخريب الممنهج هذه يشترك ثلاثة أطراف وهي: الجهة المدبرة والمستفيد الحقيقي من التخريب، والجهة المنفذة عن وعي وعن غير وعي، والجهة الساكتة عن التخريب، فلا تنكره ولا تتساءل حتى عن مجرد وقوعه.

وتفاصيل هذه العملية قد لا تظهر للعيان، ولكنها تلمس كوقائع ونتائج قائمة على الأرض، بحيث لا يجد المرء لها مبررات ملموسة، وأدلة منفصلة كالوثائق والتقارير المكتوبة والأسماء والمسميات، ولكن محصلتها دائما سلبية… وإضافة إلى النماذج المذكورة آنفا، يمكن استحضار نماذج أخرى تعيشها البلاد، وهي أن بلادنا غنية وأهلها فقراء، ومساحاتها الكبيرة من الأرض زراعية غزاها الاسمنت المسلح فشيدت عليها عمارات ومصانع ومشاريع صناعية وتجارية، وإلى جانبها أراض صخرية لا تصلح لغير البناء ولا شيء عليها، وإطارات تضطر إلى الهجرة بحثا عن لقمة العيش الكريم، تاركة وراءها بلادها تئن تحت وطأة الحاجة إليها، كل ذلك يعني أن ما يقع غير طبيعي، ولا يمكن تصنيفه خارج دائرة التخريب الممنهج، وإلا لماذا يكون هذا الوضع غير طبيعي؟

إن قضايا المجتمعات والدول لا مجال فيها للصدف والمفاجآت…، تلك هي فلسفة التخريب الممنهج في أبسط معانيها، لأن التخريب الفوضوي والقاصر مع حسن النية، لا يكتب له النجاح، وإنما سرعان ما ينكشف أمره ويسقط.

وعندما انشرح صدري لكتابة هذا الفصل من فصول التخريب الممنهج، الذي أعتبره هو الأصل في إنتاج كل مآسينا، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومنها قانون المالية هذا وغيره من القوانين المضرة بالجزائر.

فعندما يقول قانون المالية 2016 “الأراضي التابعة للأملاك الخاصة للدولة والموجّهة لإنجاز مشاريع ذات الطابع السياحي محلّ منح الامتياز القابل للتنازل على أساس دفتر الشروط..“، وليس هذا فحسب وإنما يطبق ذلك بأثر رجعي ابتداء من 2008، فلا ندري لما هذا الأثر الرجعي؟ لا سيما ان هذا القطاع جديد على الجزائر ويفترض ألا مشكلات فيه عالقة تتطلب المعالجة القانونية بأثر رجعي، وعندما تقحم هذه الفكرة فمعنى ذلك أن أملاك الدولة في هذا القطاع الحيوي قد وزعت على جهات معينة قبل التشريع لهذا النوع من النشاط، ومثل هذه الصيغ ليست جديدة على الجزائر، حتى نضطر للتأويل الحسن، وإنما هي صيغ جديد لأرباب النفوذ الذين يقيسون القوانين على مصالحهم الخاصة فقط، ولتذهب الجزائر وشعبها إلى الجحيم.

فالولايات الأربع –بومرداس، الجزائر، تيبازة والبليدة، قد مرت بمثل هذه التجربة، وتعرضت لأكثر من تعديل –تمددا وتقليصا- لأطرافها، أي البلديات الحدودية بين هذه الولايات، فتصنف البلدية الحدودية مثلا ضمن ولاية الجزائر ثم يحصل تعديلا فتقتطع من ولاية الجزائر لتضاف إلى ولاية بومرداس أو تيبازة  أو البليدة، ثم بقدرة قادر تعاد إلى ولاية العاصمة…، وأمور أخرى كذلك ذات طابع إداري، تعطلت بسببها مشاريع كبرى لتعنت في إدارة بلدية أو ولائية، على حساب ولايات أخرى.

اما قضية تنازل الدولة عن الممتلكات المصنف في القطاع السياحي فهي جريمة لا تقل جرما عن تأميم أراضي وممتلكات الناس في العهد الاشتراكي، إذ القاسم المشترك بينهما هو الارتجال وعدم تقدير المصلحة الوطنية والاجتماعية.

لقد أمم النظام الجزائري في العهد الاشتراكي ممتلكات كثيرة لا لشيء إلا ليسمى النظام اشتراكيا، رغم ان النظام كان بإمكانه أن يبقي للناس ممتلكاتهم ويضيف هو مشاريع أخرى استثمارية على الأرض التي لا تزال إلى اليوم بكرا، لأن الجزائر قارة في شساعتها، وغنية برجالها وأراضيها، وهي إلى الآن لا تزال بكرا وأطرافها خاوية خالية..، ومع ذلك فضلت العبقرية الجزائرية ان تؤمم للناس ممتلكاتهم وتفقرهم بدل أن تغنيهم، وتحرمهم من التملك بدل تنشئ مشاريع تنموية على الأراضي الخالية، وكذلك اليوم يبدو ان السلطة تعتقد انها لا تصبح لبيرالية إلا عندما تتنازل عن الممتلكات العمومية لصالح القطاع الخاص، وهذا غير صحيح، فالسلطة قادرة على تشجيع القطاع الخاص من غير أن تسجل تنازلات على مكتسبات عمومية حققتها الجزائر خلال نصف قرن، لا سيما في القطاعات الحيوية التي كالمحروقات والكهرباء وغيرها.

عندما قررت الصين في عهد ماو تسي تونغ تحديد النسل للحد من النمو الديمغرافي حتى تتحكم في سياستها التنموية، تراجع الرئيس عن هذا القرار، وقال إن الطفل عندما يولد، يولد ومعه فما واحدا للإستهلاك، ويدان تنتجان…،  اما كبراءنا فقد اختزلوا كل خيراتنا في المحروقات التي لا تساوي معشار ما تملك البلاد.. 

مقالات ذات صلة