الرأي

فقه البدائل.. الفقه الغائب في الجزائر

محمد بوالروايح
  • 2629
  • 16

واقعنا نحن المسلمين ينبئ بحقيقة لا يختلف فيها اثنان، وهي أننا أمة مولعة بظواهر الأشياء، نطوف حولها ولا نكاد نبرحها إلى حقائق الشريعة، ومن هذه الحقائق جمعها بين ما يمكن تسميته “الثنائيات المتضادة”، الشر والخير، والحلال والحرام، والطيّبات والخبائث، والمعروف والمنكر.

هناك قلة من المسلمين من يفقهون حقيقة هذه الثنائيات المتضادة التي تعني أن في الإسلام هامشا كبيرا للبدائل، فهو لا يأمر الإنسان بهجران نسك أو مسلك حتى يبيّن له من البدائل ما يغنيه عن ذلك، وفي القرآن الكريم والسنة النبوية شواهد كثيرة على ذلك، منها قوله تعالى: “يسألونك ماذا أحِلَّ لهم قل أحل لكم الطيبات”، وقوله تعالى: “الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم”.

فقه البدائل فقهٌ إسلامي قديم لم تعدمه الأمة الإسلامية في عصورها وأمصارها، أما فقه النوازل فهو فقهٌ إسلامي جديد نسبيا ظهر بسبب تعقد الحياة الإسلامية وظهور أمور مستحدثة لم تكن موجودة من قبل. 

إن فقه البدائل في الإسلام يمتد ليشمل حياة المسلمين وأعيادهم، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر”،  إن الغاية من فقه البدائل في هذه النصوص وغيرها هي إثبات خاصية التقابل الضدي- إن صحّ التعبير- بين الأوامر والنواهي والحلال والحرام، والطيّبات والخبائث، وهي الخاصية التي تجعل الإسلام دينا فطريا واقعيا لا يكتفي بالنهي عن مسالك الشرّ المبتذلة، ولكن يشفع ذلك ببيان مسالك الخير البديلة. وتحقيقا لهذه الغاية، طفق الفقهاء المعاصرون يفيضون في فقه البدائل ويتوسَّعون فيه ليستغرق كل مناحي الحياة الدينية والاقتصادية والسياسية من أجل تغيير المواقف السلبية الكثيرة التي يكتفي أصحابها بانتقاد السلوكات والنماذج الأخرى من دون تقديم البدائل الممكنة المستمدة من روح الشريعة الإسلامية.

والمشكلة أن هذا العجز في تقديم البدائل يضاف إليه عجزٌ آخر وهو عجز بعض العلماء الأدعياء عن تعريف هذا الفقه وتوصيفه والخلط بينه وبين فقه النوازل، مع أن التركيب اللغوي البنائي الظاهري يفيد بأن النوازل مأخوذة من النازلة وهي القضايا المستجدة التي لم تكن موجودة في عهد السلف أو في العهود الإسلامية الأولى والمتقدمة، وبأن البدائل مأخوذة من البدل وهي التصوّرات والتطبيقات البديلة التي نخالف بها التصوّرات والتطبيقات القائمة الدخيلة المخالفة لروح الشريعة الإسلامية وتقاليد المجتمع الإسلامي، وأسوق في هذا الصدد ما قاله أحمد عبده عوض العالم الصوفي “القبوري” كما يصفه بعضهم، الذي يطلع علينا في قناة “الفتح” بما يسميه “الفتوحات الربانية في علاج أمراض الهوس والمس”، إذ عرَّف “فقه البدائل” على هذا النحو: “ظهر فقهٌ جديد هو فقه البدائل، أي الأمور المستحدثة التي لم تكن موجودة عند السلف أو كانت موجودة عندهم بشكل مختلف عما نحن عليه الآن، هل يقف الإسلام عاجزا؟ عندما يسألني أحدٌ عن حكم البورصة هل أقول له آسف لا أعرف لأن البورصة لم تكن موجودة في عهد النبوة مثلا؟ عندما يسألني أحدهم عن فوائد البنوك هل أقول له لا أعرف لم تكن عندنا بنوك في الشريعة الإسلامية؟ أقول هذا وأتوقف”.

إن فقه البدائل فقهٌ إسلامي قديم لم تعدمه الأمة الإسلامية في عصورها وأمصارها، أما فقه النوازل فهو فقهٌ إسلامي جديد نسبيا ظهر بسبب تعقد الحياة الإسلامية وظهور أمور مستحدثة لم تكن موجودة من قبل.

لا يهمني الاسترسال في الحديث عن مفهوم فقه البدائل، ولكن يهمني أن أقول إن هذا الفقه غائبٌ في الحياة الإسلامية، وفي راهننا الجزائري ما يمكن أن يكون دليلا على ذلك، فنحن لم نوظف فقه البدائل الذي يزخر به تراثُنا الفقهي بشأن بعض الظواهر الدخيلة المنافية لتقاليدنا الإسلامية والمجتمعية إلا بعد أن استشرت واستفحلت واستحكمت حلقاتها، لأننا دأبنا على اجترار مقولة “دق ناقوس الخطر” التي تعني ببساطة أننا نؤدي في الغالب حيال هذه الظواهر وغيرها دور رجل الإنقاذ والإطفاء ولا نتخذ الاحتياطات والاحترازات اللازمة إلا بعد حدوث الكارثة، ومن قبيل ذلك تعاملنا مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية أو “الحرقة”؛ فقد سكتنا دهرا ثم تنادينا أخيرا لسوق الأدلة الشرعية على حُرمتها لأنها تصادم مقصدا مهما من مقاصد الشريعة وهو حفظ النفس وعدم المخاطرة بها وتعريضها لما يتلفها، احتكاما لقوله تعالى: “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة إن الله كان بكم رحيما”، وقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: “من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا”، كان يجب علينا قبل حدوث الكارثة أن نوظف فقه البدائل الذي أشرت إليه من أجل تنشئة الشباب تنشئة إسلامية بديلة للتنشئة الغربية التي تجعل المخاطرة بالنفس مظهرا من مظاهر البطولة ومعلما من معالم الرجولة، وترغيبهم فيما ينفعهم وتحذيرهم مما يضرهم.

كان يجب علينا قبل حدوث الكارثة أن نفكر في البدائل التي يمكن أن تكون عاصما للشباب من المخاطرة في عرض البحر وسلوك مسالك الشر بتوفير ما يعفيهم عن المسألة والتفكير في هذه العاقبة السيئة، كان يجب علينا أن نفكر في كل البدائل المتاحة التي يمكنها أن تطمئن نفوس الشباب وتبعد عنهم الوساوس التي يزينها لهم كثير من شياطين الإنس والجن، وتعيد بناء الثقة في نفوسهم، وبينهم وبين أهليهم ومواطنيهم ووطنهم. جميل أن يبادر المجلس الإسلامي الأعلى إلى تنظيم ندوة حول “دواعي الهجرة غير الشرعية: الأسباب والأخطار” ولكن ما نعيبه عليه وعلينا جميعا هو أننا آنيون وموسميون لا نتحرك إلا على طريقة “بافلوف” في ساعات العسرة وبعد خراب البصرة، كان يجب علينا مرافقة الشباب في كل أحوالهم، واحتوائهم قبل أن تتلقفهم دوائر الشر وتهيمن عليهم الأفكار الشيطانية ولا يجدون في النهاية مخرجا لهذا الضنك الذي يعانونه والهمّ الذي يكابدونه إلا المغامرة والمقامرة التي تقضي على حياة كثيرين وتحوِّل الناجين منهم إلى الضفة الأخرى إلى ما يشبه الأيتام في مأدبة اللئام.

من السهل مراجعة النصوص الشرعية من أجل استنباط حكم شرعي يحرِّم الهجرة الشرعية -وهو بالمناسبة من الأحكام الواضحة التي لا نختلف بشأنها- ولكن هل فكرنا قبل ذلك في احتضان الشباب في نواد اجتماعية تأهيلية تُشعِره بعطف المجتمع ولطفه، ورعايته وعنايته؟ هل فكرنا قبل ذلك في استغلال الشباب استغلالا إيجابيا يجعل منه عنصرا نافعا في المجتمع؟ هل فكرنا في بث روح الإرادة والمبادرة وشعور المواطنة في نفوس الشباب؟ هل فكر المجتمع المدني في دعم جهود الدولة في تعقب الجهات التي تغرِّر بالشباب وتدفعهم إلى الانتحار في عرض البحار؟ هل فكر الباحثون والاجتماعيون في إرشاد الشباب من أجل تجنبيهم مغبة المآل الذي انتهوا إليه؟ هل فكر أهل الدثور ورجال المال في رفع بعض الغبن المادي عن الشباب بتمكينه من حرفة تغنيه عن الحرقة؟ أعتقد أننا كلنا أو جلنا لم نوظف هذه البدائل، ولذلك فإننا نتحمل وزر هذا الضياع الشبابي في زمن تزداد حاجة الوطن إليهم، فمتى نوظف البدائل الكثيرة التي نمتلكها من أجل حماية الشباب الجزائري من شر مستطير اسمه “الحرقة” وأخواتها من مظاهر الضياع؟.

مقالات ذات صلة